لماذا ارتفعتْ مآذننا؟

قرأتُ في باكورة الشبابِ مقولةً لا أتذكر قائلها، لكنها حفرتْ أخاديدَ في وجداني، وتطفو على سطح أيامي في كلِّ حين، ألا وهي “نهضةُ أيِّ شعبٍ مرهونةٌ بفئتي العلماء والقضاة”

قرأتُ في باكورة الشبابِ مقولةً لا أتذكر قائلها، لكنها حفرتْ أخاديدَ في وجداني، وتطفو على سطح أيامي في كلِّ حين، ألا وهي “نهضةُ أيِّ شعبٍ مرهونةٌ بفئتي العلماء والقضاة”، وفهمت آنذاك أن فئة العلماء قد تشمل عالِمَ الدين وعالِمَ الدنيا، فالأولُ يؤلِّفُ خُلقَ الناس قولاً وسلوكاً وبه يقتدي العامة، ويَهابُ غضبته السلطانُ، بل هو قبسٌ من قبساتِ النبوة بيننا، والآخر يمنحُ أهل الوطن حياته وعِلمَه، فكلاهما لا غِنى لأي مجتمع عنهما.. أما القاضي الذي يُطرَقُ بابُه من أجل القضاء بين الناس فهذا لعمري يتحرى العدل ولا يخاف في الحقِّ لومة لائم، فعنده يجد المغبون حقَّه، ويُنتصر للمظلوم من الظالم مهما كانت منزلته، أما قضاتنا اليوم فأكاد أجزمُ لولا الواسطة والرشوة والمحسوبية ما تولى أحدٌ منهم القضاءَ إلا من رحم. 

ولو جاء إلى مصرنا رجلٌ غريبٌ وألقى نظرة على حياتنا بحيادية لظننته يقول: يحاربون بيوتَ الله بالملاهي، ويحاربون الزوجاتِ بالفن وبناتِ الليل، ويحاربون العقيدة وروحها بمن يُطلقون عليهم زوراً وبهتاناً النخبة، ويصارعون قوة الجهاد وفريضته بفنون اللذة والشهوات وقنوات “التت”، وواقع الأمر الأليم تراهم يَضلُّون ويُضلِّون حين يوحِّدون خطبة الجمعة، ويُغلقون مساجدَ الله بدعوى أنها تستهلك الكهرباء، وأنها مفرخةٌ للإرهاب والتطرف، وكانت مساجدنا منارة العلم والدين ومفرخة الرجال في كل عصرٍ ومِصْر، أما الملاهي والمراقص وحاناتُ الشراب والبغاء والكنائس فكأن الكهرباء فيها لا تُستهلك، ولكنها تتجدد ذاتياً بفعل المشروبات الروحية! وشرُّ الشرور يا سادة هو الفن وحريته وخلاعته، فلا نرى فيه إلا الحماقة والهزل والسخف والاستهزاء وكل المعاني الفجة التي يريدون إحياءها في نفوس العامة المكذوب عليها، فلا عجب أن تجد من يتسول طعامه وشرابه وهو على المجتمع عالة وفي بيته الدش وملحقاته قبل الأكل أحياناً، ومن يُلقي نظرةً على أسطح البيوتِ في مجتمعنا العربي يجد من مستقبلات الإرسال والأقمار عدداً يكفي ثمنه لإطعام قارة بأكملها.

فهكذا نجح الاستعمار منذ عقودٍ أن يجعلَ جُلَّ الشعوب النامية لا تفكر إلا في أمرين لا ثالث لهما؛ الأول: كيف نأكل؟ وإذا أكلنا كيف نمارس الجنس؟ وهي متاهة من دخلها لا يخرج منها إلا بشقِّ الأنفس، علاوة على أن صاحبها يعيش في مجتمعه بأضعف ما فيه، ويرجو من الجميع أن يحملوه في كل شيء، وهذا للأسف واقع أغلب المجتمعات العربية، بينما القليل يعيش باذلاً أفضل ما لديه ويحملُ همَّ أهله وأمته ويُحارَبُ من قبل مؤسسات الدولة وكأنه صبأ.

أما مصيبة نخبتنا وإعلامنا المضلِّل وتوقيره لمن لا يستحق فكأن هدفهم وغاية مآربهم ألا يُثبتوا للإسلام شخصيته العزيزة، فتكون نكبتنا في ضميرنا وعقيدتنا وعقلنا الجمعي.

وقضاؤنا – للأسف – نراه في كل حين يخرق القانون كمن يخترع قانوناً حسب الحالة وحسب صاحبها، وأحسبُ أننا أسوأ ممن كانوا قبلنا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، بل واقعنا إذا سرق فينا اللصوصُ كافأناهم، أما الشريف والأمين فيقام عليه الحد لشرفه وأمانته. 

وفي أيامنا مساعدة الأهل في فلسطين وسورية وبورما جريمة لا تُغتفرُ، بل تجد البعض يصب لعناته، والكثيرُ يبخل عليهم حتى بالدعاء، ونسوا أو تناسوا أن أخلاقنا ووقوفنا إلى جوارهم هي إرادة فوق إرادتهم، وقوة فوق قوتهم، ودعم وتعزيز ومشاركة وجدانية أوجبها الإسلام علينا لا منَّة وكرامة، وإن في الإسلام من المعاني والأفكار التي تجعل النفس فوق المادة وفوق الخوف وفوق الموت نفسه، وفي الإسلام الفكرة التي تحيا في القلوب بمعنى القوة وبمعنى إيثار الغير، وبمعنى القِّبلة الواحدة التي يتجه صوبها الكلُّ، وفي الإسلام فكرة الرفعة كلما رأينا مآذننا مرفوعة، فهل سألت نفسك يوماً أخي: لماذا ارتفعت المآذن؟ اعلم أخا الإيمان أن الإنسان هو المخلوق الوحيد رأسي النظرة، متصل بالسماء، منتصب الهامة، روحاني النزعة، فهذا نوع من التكريم الإلهي؛ لأنه أهل للقيام بتبعات الخلافة، يدور مع تكليفات الله والحكمة ضالته، أينما وجدها فهو أحق بها ، لكن كل من يدبُّ على الأرض غير الإنسان تجده أفقي النظرة، مادي النزعة، يدور في فلك ذاته، والمآذن كذلك مرفوعة منتصبة متجهة للسماء لعلة، يجب أن يعيها المسلم، فهي رمز لسموه وارتفاعه عن أدران الأرض، فمن المآذن يعتاد المسلمون رفع الصوت بالحقِّ وفى الحقِّ دائماً، ومثلها تظلُّ الهامةُ مرفوعةً متصلة بخالقها، تنهل من منهجه وتصيغه واقعاً يتجسد، مرتفعة مآذننا لتتعالى في قيمك وسلوكك، وتشعر أنك دوماً عالي المصدر راقي المنبع، لتحنَّ لجنة أبيك آدم مسكنك الأول، وتتعجل متى تصل إليه لتبرهن أن الجنة موطننا الأصلي، أما ما نقطنه الآن فاستثناء.. قصدي هباء، لتشعر دوماً بأثر النفخة الربانية فيك، وأنك جئت من أعلى وستذهب دوماً للأعلى، لأن ربك الأعلى ومنهجك الأعلى ورسولك أفضل الأنبياء، لنسمع منها: حي على الفلاح؛ فنحوقلُ، ونسرع إلى الصلاة، ونسمع منها: حي على الجهاد؛ فنخفُّ ونلبي.. مع العذر لغزة وسورية.

والآن.. هل ترى مآذننا مرفوعة؟

 

Exit mobile version