الأزمة العراقية.. وسيناريوهات المرحلة المقبلة

تعيش المنطقة العربية حالة من الترقب والمتابعة لما يجري على أرض العراق منذ العاشر من يونيو بعد أن اجتاح الثوار السُّنة، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) محافظة نينوى ومركزها الإداري مدينة الموصل

تعيش المنطقة العربية حالة من الترقب والمتابعة لما يجري على أرض العراق منذ العاشر من يونيو بعد أن اجتاح الثوار السُّنة، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) محافظة نينوى ومركزها الإداري مدينة الموصل، ثاني كبرى المدن العراقية التي يقطنها أكثر من مليون إنسان، ومحافظة صلاح الدين ومركزها تكريت شمال غربي بغداد، ومحافظة الأنبار غربي العراق ومركزها الرمادي، وقد تمكن الثوار أيضاً من بسط سيطرتهم على مصافٍ عملاقة للنفط، وبات الطريق إلى بغداد ممهداً بعد تهاوي جيش “نور المالكي” أمام جحافل السُّنة الذين استطاعوا خلال الأسابيع القليلة السابقة السيطرة على ما يقرب من ثلث مساحة العراق والكثير من العتاد العسكري الذي كان في واقع الأمر عبارة عن تجهيزات أمريكية وبريطانية حديثة للجيش العراقي.

لم يقف الأمر عند ذلك الحد، بل تطور بشكل مذهل عندما أعلن أبومحمد العدناني، المتحدث باسم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) عن تأسيس دولة الخلافة الإسلامية، على أجزاء متصلة من سورية والعراق من حلب إلى ديالى أطلق عليها “الدولة الإسلامية” دون إضافة العراق والشام؛ وذلك لتصبح دولة لكل المسلمين في كل العالم، على حد تعبيره، لافتاً إلى تولية أبي بكر البغدادي منصب الخليفة.

وقد وصف العديد من المحللين تجريف الحدود العراقية السورية بأنه ثورة على حدود “سايكس- بيكو”، وإرهاصة سابقة على وضع إقليمي جديد لن يقف معه قطار التقسيم والدمج عند حدود العراق وسورية، بل سيمتد إلى تركيا وإيران ولبنان والأردن والمملكة العربية السعودية، ويمكن أن يعبر البحر في اتجاه الشمال الأفريقي في ظل الأجواء الملتهبة في القاهرة وطرابلس.

هذا التطور الدراماتيكي السريع والمذهل للأحداث لم يواكبه حتى الآن أي تحرك جدي من “نوري المالكي” سوى استغاثته بإيران وحلفائه الغربيين، وخاصة أمريكا التي أرسلت 180 من المستشارين العسكريين الأمريكيين لتنسيق هجمات الجيش العراقي على الثوار السُّنة وتنظيم الدولة الإسلامية، بالإضافة إلى الدعم الجوي الأمريكي الذي سيحظى به “المالكي” في الأيام القادمة.

ويرى بعض المحللين أن أمريكا باتت في مأزق، فهي من ناحية لا تريد إضعاف المقاومة المسلحة للنظام السوري، وتدرك الأبعاد الإيرانية الشيعية المدعومة من روسيا، والتي تثير توجس الحلفاء الخليجيين، ومن جهة أخرى تريد تحجيم طموح تنظيم الدولة الإسلامية والمحافظة على مصالحها في العراق. وغير بعيد عن هذا كله يأتي الصراع الأمريكي الروسي المستتر في أوكرانيا الذي يلقي بظلاله على السياسة الدولية ودهاليزها المتشابكة.

وفي إطار تفخيخ الوضع العراقي، وتضخيم “الخطر الداعشي”؛ نشرت صحيفة “فايننشال تايمز”، و”سي إن إن” تقريرين منفصلين عن تمويل “داعش” لنشاطاتها، ورجحتا أن التنظيم حصل على مبالغ طائلة من بنوك المحافظات التي استولى عليها، كما أنه بات يسيطر على عدة مصافٍ بترولية كبرى في سورية والعراق، وتمكن بالفعل من تصدير نفطها الخام عبر وسطاء؛ الأمر الذي دعا بعض المراقبين إلى القول: إننا أمام أغنى جماعة مسلحة على الإطلاق، وقد تمكنهم هذه القوة الاقتصادية من تنفيذ خطتهم الرامية إلى دخول بغداد والاستيلاء على مزيد من الأراضي على جانبي الحدود العراقية السورية.

غير أن غالبية المتابعين للشأن العراقي يدركون أن الذي يحدث هو ثورة عراقية سُنية ضد التهميش والظلم والسياسية الوحشية التي انتهجها “المالكي” ضدهم عبر السنوات السابقة، في ظل انسداد الأفق السياسي، وانعدام فرص الحل، نعم قد تكون “داعش” موجودة وقوية، إلا أنها وكما أشار بيان هيئة علماء المسلمين في العراق لا تنفرد بالمشهد، ويشاركها فيه كتلة سُنية تضم ثوار العشائر وهم مستقلون، ومسلحي فصائل المقاومة العراقية الكبرى على غرار “جيش الراشدين”، و”جيش التابعين”، و”كتائب ثوار العشرين”، و”جيش محمد الفاتح”، وغيرها، و”المجلس العسكري لثوار العراق”، وهذه الفصائل تشكل السواد الأعظم من القوات السُّنة على الأرض، وهو ذات الأمر الذي أكده طارق الهاشمي، نائب الرئيس العراقي السابق في تصريحاته لوكالة “الأناضول” التركية.

ولعل تركيز “المالكي” وبعض السياسيين الغربيين على “داعش” وتضخيم خطرها يأتي بهدف تسهيل التدخل الأمريكي الإيراني المحتمل لتطويق واحتواء الثورة السُّنية.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما السيناريوهات المستقبلية للوضع العراقي؟

في تقديري أن المسألة العراقية باتت أمام أربعة سيناريوهات محددة:

السيناريو الأول: التقسيم:

هذا السيناريو يقوم على فَرَضِيَة تتداعى الأمور إلى الحد الذي يبقى معه العراق موحداً أمراً مستحيلاً، ويختار فرفاء الوطن أن يتقسم العراق إلى ثلاث دويلات سُنية وشيعية وكردية؛ وهو الأمر الذي يرفضه إلى الآن الوجدان الجمعي العربي والإسلامي، كما ترفضه الإرادة السياسية لدول الجوار التي تدرك خطورة التقسيم، وتعرف أبعاده وتداعياته على مستقبل وسلامة ووحدة أراضيها.

إلا أن هذا السيناريو ليس مستبعداً بالكلية، فقد وافقت ذات الإرادة على تقسيم السودان قبل سنوات قليلة، واعتبرت أنه شأن داخلي يتماشى مع المبدأ الأممي الذي ينص على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وقد ظهرت بوادر هذا السيناريو بوضوح خلال الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهر مايو 2014م ومدى الطائفية والاستقطاب الحاد الذي بات يخيم على تلك الفسيفساء العراقية الضعيفة والهشة، لاسيما عندما طالب مرشحون سُنة بإقليم سُني، وقد أوردت صحيفة “الشرق الوسط” اللندنية تصريحاً لحاتم السليمان، رئيس مجلس ثوار العشائر، يقول فيه: “إن التقسيم هو الحل الأمثل للمشكلة في العراق”.

أما الزعيم الكردي مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان، فقد صرح لفضائية “سي إن إن”: “إن العراق يعاني من انهيار واضح، وإنَّ الحكومة المركزية فقدت سيطرتها على كل شيء.. نحن لم نتسبب في انهيار العراق، بل إن غيرنا هو السبب.. إننا نشهد عراقاً جديداً يختلف عن العراق الذي كنا نعرفه قبل عشرة أيام، ولذلك فإنه آن الأوان كي يحدد الأكراد هويتهم ورسم مستقبلهم وتحديد مصيرهم وحدهم”.

السيناريو الثاني: استنزاف الجميع:

قد يكون الهدف الأبرز لغض الطرف عما يحدث في العراق وتجاهل أزمته هو استنزاف طاقة الشيعة وإيران من جهة، والسُّنة والخليج من جهة أخرى في حرب استنزاف طويلة كالتي حدثت بين العراق وإيران مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، يأتي هذا الاستنزاف تمهيداً للوصول إلى حالة من التفكك والفوضى في المنطقة تتمكن خلالها الأحلاف الدولية من صياغة جديدة للمنطقة، على اعتبار أن “سايكس – بيكو” أصبح جزءاً من الماضي الذي لا يرضي التطلعات الغربية، ولا يتماشى مع مصالحها في الوقت الراهن؛ الأمر الذي تحتاج المنطقة معه إلى تفكيك وإعادة تركيب، وقد يصل هذا السيناريو إلى تقسيم العراق إلى منطقة سُنية تنضم إلى الأردن، ومنطقة شيعية تنضم إلى الكويت أو إيران، ومنطقة كردية تنضم إلى تركيا.

ونلاحظ في هذا الإطار مراهنة بعض الأطراف الدولية على هشاشة الجبهة الداخلية السُّنية التي قد تؤدي إلى الانزلاق نحو الاقتتال الداخلي بين ثوار العشائر و”داعش” على غرار ما يحدث في الجانب السوري بين “جبهة النصرة” و”الجيش الحر” من جهة، و”تنظيم الدولة الإسلامية” من جهة أخرى، أو بعبارة أخرى “أفغنة الثورة السُّنية أو صوملتها”.

السيناريو الثالث: عودة القوات الأمريكية:

قد تجد الولايات المتحدة – وحلفاؤها الغربيون – نفسها أمام هذا الخيار الصعب إذا تطورت الأمور وخرجت عن السيطرة، وهذا القرار مع صعوبته إلا أن الواقع يقول: إن مجريات الأمور قد تدفع إلى نقل قوات أمريكية إلى العراق، وهو بمثابة الكي الذي يعتبر آخر الدواء لدى العم سام، وفي تقديري أن التقارير الصحفية التي تتحدث عن نقل قوات أمريكية من أفغانستان إلى الكويت، وتحريك قطع عسكرية بحرية لتكون بالقرب من المنطقة، إضافة إلى القطع المتواجدة بالفعل؛ يوحي بأن هذا الخيار قائم وموضوع في الاعتبار، وبالطبع لن يكون هذا القرار إلا في حالة ما إذا لم ينجح “المالكي” في ضبط الأمور في الداخل العراقي وسقوط بغداد في يد “المتشددين الإسلاميين”، والتقدم نحو السيطرة على مزيد من حقول النفط والغاز، وفي تقديري أن التدخل الأمريكي سيكون له ثلاثة أهداف محددة، وهي:

–       تأمين مصادر الطاقة.

–       منع انفراد إيران بالساحة العراقية؛ إذ إنه من المتوقع تدخل إيران إذا تأخر التدخل الأمريكي.

–       تحجيم الحركات الإسلامية المسلحة لاسيما قوات الدولة الإسلامية ومنعها من التقدم.

السيناريو الرابع: الحل السياسي الشامل:

ضخمت إيران وأمريكا من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإمكاناته العسكرية ودوره على الساحة العراقية؛ لتبرير التدخل الخارجي، إلا أنه مازال الجميع يدرك أن حركة السُّنة عبارة عن انتفاضة شعبية ضد سياسات “المالكي” الطائفية؛ الأمر الذي دفع دول الجوار وخاصة الخليجية للضغط على أمريكا بما تملكه من تفاهمات لم يجف مدادها مع إيران وحضورها السياسي القوي في الداخل العراقي للبحث عن حل سياسي للأزمة القائمة في البلاد، تستبدل شخصية شيعية أكثر توازناً واعتدالاً بـ”المالكي”، مع تلبية بعض مطالب السُّنة، وإعادة دمجهم في الحياة السياسية في إطار حل شامل قائم على الحوار والتوافق، وهو أمر مستبعد في ظل غطرسة “المالكي” واستعلائه من جهة، والتفوق العسكري السُّني من جهة أخرى. 

Exit mobile version