إشكاليات أمراض االنخبة.. وتعقد أزمة المجتمع

يقصد بالنخبة أو الصفوة تلك القيادات غير الرسمية في مختلف القطاعات

يقصد بالنخبة أو الصفوة تلك القيادات غير الرسمية في مختلف القطاعات، وأبرزها النخب الثقافية والإعلامية والسياسية، وهذه النخب يفترض أنها تتمتع بميزات تعليمية وعقلية ومهنية تمكنها من التوصل إلى حقائق الأوضاع، وأن تكون ضمير الأمة، ووظيفتها أن تؤكد المؤشر الوطني في جميع القطاعات ومواجهة انحراف الحاكم عن هذا المؤشر، وتكون النخبة في موقع وسط بين الشعب والحاكم، كما أن موقع هذه النخب هي في صف المعارضة؛ فإذا خرجت من المعارضة فقدت كثيراً من هذا التحديد، فإذا حاول الحاكم تعديل الدستور أو التلاعب بالقانون فإن صوت النخبة هو الأكثر وضوحاً، وهي التي تترجم أنَّات المواطنين، ويفترض أن النخبة تدافع عن القيم العليا، وأن تكون لديها الشجاعة في مواجهة الشعب والحاكم معاً.

ونظراً لخطورة موقع النخبة، فإن الحاكم يعمد إلى استمالتها بالمزايا، أو قمعها وعزلها والتضيق عليها؛ لأنها هي الخطر الأكبر على نظامه، لأنها تفتح عيون الناس على مساوئه، فالشعب يعاني عادة من فساد التعليم، وشيوع العادات الفاسدة التي تناضل فطرته السليمة لمقاومتها، ومحاولة الشعور بالحقائق في زحمة ضغوط السلطة وأجهزتها المستأنسة، وهي القيادات الرسمية التي قبلت أن تكون سوط الحاكم يلهب به ظهور الشعب، فهي الإعلام الذي يروّج للباطل ويلبس الباطل ثوب الحق، وهي الأمن الذي يقمع المعارضين أو من لديهم أي تحفظ على سياسات الحاكم أو نقد لطروحاته، وهي التي تفسد عقول الناس بالتعليم الهابط، وتغييب العقل باللهو والمخدرات، وفصم العلاقة بين قيم التفوق والاجتهاد في الدراسة، وبين ثمار ذلك الاجتهاد في الحصول على الوظائف المناسبة التي تخصص للمحاسيب والوساطات وأبناء المتعاونين في قهر العقل وتزييف الواقع، فيضع قيم تكافؤ الفرص والعدل والمساواة وكلها لا تكف أجهزة الحاكم عن ترويجها بين الناس، حتى يختار الناس بين الحديث والواقع، ويرغمون على تصديق الحديث مهما كانت معاناتهم في الواقع، ولسان حالهم يشبه مبعوث الخليفة الذي تفقد أسراه في بلاد الروم فقال قائلهم: على الذل بتنا مجمعين، كأننا من الخوف بتنا مجمعين على الحمد، وتتآكل قاعدة النخب بين القهر على السكوت والحجب عن الإعلام والتضييق في فرص العيش، وبين الارتماء في أحضان الحاكم؛ فيأمن سيف المعز ويظفر بذهبه؛ فلا يبقى عالم حقيقي، وتنطفئ شرارة الإبداع والفكر، وتموت الرغبة في المعرفة والثقافة عند العامة؛ فتتساقط النخب، بل إن الحاكم يشوّه صورة النخبة المخلصة لقضيتها ويسفّه آراءها، فالحاكم يصبح فرداً تخدمه النخب الرسمية سواء النخب الإدارية أو النخب الثقافية، فلا يسمع إلا صدى صوته.. أما من اعتصم وناضل من النخب الحقة فلا يسمع صوته أحد، كما لا يعلم أحد مصيره إذا سقط من المسيرة، وكم من الكتَّاب والفنانين والمفكرين انقطع ذكرهم في هدوء، وفي صخب الحياة لم يسأل عنهم أحد، حتى يبدأ الجادون من عناصر النخبة في تحديد خياراتهم المحدودة، إما البحث عن مصادر غير مألوفة لنشر أفكارهم، أو اللجوء إلى الرمزية في الكتابة، مادامت التهم جاهزة، وأبسطها تكدير صفو النظام الذي يحكم أمواتاً في مقابر الحياة، فتظهر في الحياة الفكرية والثقافية والإعلامية الرويبضات التي يتضاحك الأطفال على سفاهاتها، وتستسلم الأمة للضياع، ويموت الرأي الحر في صدر حامله كمداً وغيظاً، وهو يرى وطنه مستباحاً من الخارج وأطماع السفهاء في الداخل، والشعب يتردى بين الخرافة والجهل مع ارتفاع نبرة الصوت لا يسكتها سوى حشرجة الموت الذي يأتيه من كل مكان، من العوز، والأمراض الفتاكة، والقهر، والضيق وحوادث الطرق وغيرها.

في مثل هذه الظروف، يعم الظلم وينتشر الفساد، ويتظالم الناس جميعاً، فلا يتناصح الكبار، ولا يحتشم الصغار، وتشيع الفاحشة بينهم وتضيع الأخلاق، ويعمد بقية العقلاء إلى السكون أو تسجيل مواقفهم لعل هذه المواقف ترى النور يوماً، وبالطبع فإن ضياع القيم وانحدار التعليم وتوحش الغرائز المجتمعية تحت سمع الحاكم وسروره لهبوط شعبه حتى يسهل قياده، يُخرج أجيالاً لا تثق في شيء، ولا تجد سوى الدين في الكتب عاصماً لها من الضياع بعد أن انضمت كتائب الفقهاء والقدوة إلى موكب السلطان، في هذه الظروف يقلّ عدد المجانين، ويجدون فسحة في الفضاء العام، وتضيع البدايات، بل إن الحاكم قد يعمد إلى وضع نفسه في موضع الفضلاء والعقلاء وأصحاب الدين وأصحاب الرأي السديد.

الغريب أن النخب في عصر “مبارك” كانت منقسمة، ولكن بعضها يستحيل تحديد موقفه، فلما قامت ثورة الشعب المباركة تسابق الجميع على ركوبها، بل إن أحد أركان نظام “مبارك” ادَّعى أنه ابن هذه الثورة، وصارت النخب جميعاً تبحث عن منافع لها في المناخ الجديد.

إن نقطة البداية في إصلاح مصر ولا أقول ديمقراطيتها وهي بعيدة المنال، هي بلورة نخبة محترمة ترى مصلحة مصر فوق كل الغيوم والضلالات وتبصر الشعب بكل الطرق بالموقف الصحيح، بعد أن تفرقت النخب في سلوك انكشاري مهين، هائمة وراء منافع زائلة وتخلت عن مواقفها، حتى لا يستقيم موقف الواحد منهم أو يصدق الوصف الذي يتخفى وراءه؛ فقد سقطت الأقنعة عن الجميع، وضبطوا متلبسين بفضيحة التآمر على مصر وعقل شعبها، وأذكر في هذا المقام 8 مقالات نشرها أستاذنا وأستاذ أجيال الوطنية والعروبة د. حامد ربيع في مجلة “الأهرام الاقتصادي” بعنوان “مؤامرة على عقل مصر”؛ يقصد معاهدة السلام مع “إسرائيل”، وهو المفكر الفذ الذي نفذ خلف الحجب الزمنية وبسببها اضطر إلى الفرار إلى العراق، ثم عاد وقضى عليه “الموساد” الصهيوني كما قضى على جمال حمدان، وكل أعلام النخب الحية في مصر.

أن تنفض النخب عن نفسها غبار التطويع أو الفساد أو المصلحة، وأن ترى مصلحة مصر بوضوح، وأن تجاهر بها وتدعو الشعب إليها؛ هي الخطوة الأولى لإخراج مصر من ورطتها، بدل دفعها إلى نهايتها فتغرق السفينة بمن فيها من الانتهازيين والمغامرين والطامحين في استكمال اغتصاب الضحية حتى بعد أن تقطعت أنفاسها.

إن مطالب الشعب في ثورة يناير هي برنامج النخب الجديدة المبرأة من فساد الضمير والذمم، فلاشك أن الشعب يريد العيش، والكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية، ولذلك على النخب أن تستثمر طاقاتها في تثقيف الشعب وقيادة وعيه حتى يخرج حكاماً صالحين، فالشعب هو الوعاء، ولا عبرة بإصلاح الحاكم مادام الشعب نفسه فاقداً لعقله ووعيه وصحته، مثل هذا الشعب يخرج حاكماً من صفوفه مرآة له ولحالته.

النخب الصالحة قيد على الحاكم حتى لو أنشأ مؤسسات مزورة، وهي التي تعبر عن مطالب الشعب في قضاء عادل وأمن مستقيم، وحياة خالية من الفساد، وكرامة حتى في السجون، وقوانين عادلة، وصحة سليمة، ومستقبل واضح، ولا يشرف أحداً أن تكون مصر على هذه الحال من التدهور والتبعية، ونحن نمشي على أرض من الذهب، ولن تأتي السماء بنبي مستورد يصلح ما فسد في هذا الوطن سوى عقلائه ونخبته التي أطالب بها ولن أمَلّ من الإلحاح في الطلب.

Exit mobile version