الطَّاغِيَةُ النَّمُوذَجُ

يذهب الحاكم ويأتي آخر ويختلف الناس في الذاهب والآتي من حيث العدل والطغيان! دوما ينقسم الناس فريقين في الحاكم؛ فريق يؤيده وفريق يعارضه! وتجد فريق المؤيدين يرى الحاكم هو الخير الصُّراح؛ بينما الفريق المعارض يود لو هلك الحاكم من ساعته فيهدأ ويرتاح! حتى

يذهب الحاكم ويأتي آخر ويختلف الناس في الذاهب والآتي من حيث العدل والطغيان! دوما ينقسم الناس فريقين في الحاكم؛ فريق يؤيده وفريق يعارضه! وتجد فريق المؤيدين يرى الحاكم هو الخير الصُّراح؛ بينما الفريق المعارض يود لو هلك الحاكم من ساعته فيهدأ ويرتاح! حتى أنك ربما تجد بعض المشتغلين بالعلم الشرعي في صف الطاغية ينصرونه ويؤيدونه! وربما وجدت بعض غير المسلمين في صف الحاكم العادل لتوفيره الأمن وصلاح الحال فيرتضونه ويدعمونه! وطالما الفريقين ينتابهم قصورُ التصور وتغيب عنهم المعلومات كسائر البشر؛ فيظل الاختلاف في شأن الحاكم قائما ما لم يظهر البرهان الواضح على رؤوس الأشهاد!

ولذلك آثرتُ عند الحديث عن «الطاغية النموذج» أن أتكلم عن حاكم لا يختلف في شرِّه اثنان ولا ينافِحُ عنه واحد! هو حاكم يتفق الناس على طغيانه لأنهم ليس بينهم وبينه مصلحة، ولن ينوب أحدٌ منهم منه منفعة، وليس له سلطةٌ تُمنعنا عن نقده، ولا له عسكرٌ يبطشون بنا إذا خرجنا من عَقْدِه..

إنه الخفاش.. خفاش الفاكهة المصري  Rousettus aegyptiacus.. خفاش الفاكهة دُونًا عن سائر أنواع الخفافيش.. فهذا النوع من الخفافيش هو نوعٌ فاسقٌ يتغذى بشراهة على الثمار والأزهار وبعض الأوراق؛ بينما أكثر الأنواع صالحةٌ تفترس الحشرات الضارة إلا بضعة أنواع قليلة تتغذى على دماء الحيوانات.. إن الخفاش حيوانٌ ليليٌّ(1).. يحكم الليل ويدير حياة الظلام، ورغم أنه لا يقوى على الحياة بالنهار إلا أنه يؤثر بأفاعيله الدهماء على الحياة وأهلها؛ فيحكم النهار من خلال الليل!

اخترت الخفاش ربما لأنه ملك الظلام.. والظلام قريب الظُّلم! وربما أغراني به دون غيره أنه أقرب «اللَّبنيَّات Mammals» شبها تركيبيًّا للإنسان! فهو أقرب للإنسان من الفأر ومن القرد من الناحية الفسيولوجية(2).. وفي هذا فائدة صغيرة عارضة نستفيدها في دحض نظرية التطور عقليا! وهي أنه لو كان للإنسان أن ينبت من شيء ثم يتطور إلى ما هو عليه الآن فهذا الشيء هو الخفاش لا القرد! وهذا يهدم نظرية التطور من جذرها! ولو كان أصحاب نظرية التطور يعقلون ما ورطوا أنفسهم في كذبة كهذه ابتدعها ملحدٌ يهودي الأصل هو «داروين».. ابتدعها ربما ليساوي الناس جميعا ببعض أجداده الذين مسخهم الله بذنوبهم (وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)!

خفاش الفاكهة المصري.. يسميه الأوربيون «خفاش الثعلب Fox Bat» وذلك لشبه وجهه بوجه الثعلب؛ على خلاف بقية أنواع الخفافيش.. ومظهر الثعلب يعطيك انطباعا عن الدهاء والمكر.. بينما حين تدقق النظر في ملامحه تجد شفتيه دائمتي الاضطراب كشفا عن أسنانه في مظهرٍ من مظاهرِ الغضب المعربد التي تراها على الكلب لا الثعلب.. وهكذا الطغاة! يحيطون أنفسهم بدعاية براقة تكسبهم مظهر الذكاء والألمعية والفهم بينما حين تقترب منهم لترى ما خلف هذا المظهر البراق لا تجد إلا الشراسة والبطش والغباء وضيق العطن!

يحوم خفاش الفاكهة طوال الليل معتمدا على نظام موجات صوتية مسموعة «audible echolocation» لتحديد العقبات في طريقه وتفاديها.. ويبحث عن الثمار بعينين تريان في ظلمة اللي البهيم حيث لا يرى الناس(3).. فإذا سهر الفلاح ليحمي فاكهته أعمته الظلمة عن رؤية الخفاش.. بينما طاغيةُ الفاكهة يرى الفلاح ويرى الفاكهة ويجني ما يريد! إنه كالشيطان يرى الناس من حيث لا يرونه ويسمعهم من حيث لا يسمعونه! وكذلك الحاكم الطاغية.. يحكم عالم الظلال! وله وسائل وأجهزة أمنية يراقب بها شعبه بينما تبقى حياتُه هو وأسرارُه طيّ الكتمان.. ربما تبقى فضائحُه سرًّا لما بعد موته بعقود! وفق بقاء رجالات نظامه وأصحاب المصالح والفضائح المشتركة معه في مواقع سلطتهم..

يبحث الخفاش عن الفاكهة ورحيق الأزهار.. حيث السكريات التي تعطيه وقود طيرانه الدائم طوال الليل(4)، وحيث الكحولات المسكرات المتولدة من تخمر الفاكهة الناضجة(5).. وهو يطير من أجل البحث عن السكريات والمسكرات! يأكل ليطير ويطير ليأكل.. في دائرة شهوانية يدور فيها حول نفسه دورة لا يقر لها قرار حتى تسطع الشمس! ولا يشبع الخفاش لأن أمعاءه قصيرة جدا وحركتها سريعة جدا؛ فرحلة الطعام فيها مكوكية تترواح ما بين 12-34 دقيقة فقط(6)! ويخرج الطعام غير كامل الهضم! وبالمثل الحاكم الطاغية! فهو نهمٌ لا يشبع.. يبحث عن الثروات والشهوات والملذات من أجل التمتع بالدنيا! وهو يحكم الدنيا ليجمع هذه الثروات! في دائرة من الطمع والاعتداء على الحقوق لا يوقفها إلا شمسُ حقيقة الموت الذي قد يأتيه في سريره أو على خشبة القصاص!

ربيتُ يوما بضعة خفافيش في قفص بمعملي.. فكنتُ أضع لها رُطَبَ التمرِ مرتين؛ مساء وليلا.. وحين أعود في الصباح أجدُ أسفل القفص تلًّا من نوى الرُّطَبِ مختلطا بإخراج الخفافيش.. فهي تلقم التمرة على مرة واحدة وتلفظ ما بها من نواة.. وحين تحتل صورة ذلك التل ذهني أتصور بقايا التمر كأنها لحم الجثث الممزّق ونوى التمر كأنه العظام تلوح من بينها! فأتذكر مشاهد المذابح القاسية وتراكم الجثث والأشلاء! وهكذا الطغاة دوما يسرفون في الدماء ولا يتورعون أبدا عن إزهاق الأرواح؛ إن لسفك الدم شهوة عاتية تتملكهم لا يفهمها الإنسانُ طيب النفس! شهوة تحتاج لفهم لذَّتها أن تمتلك قلب شيطان! إنهم يسرفون في القتل حتى يقول أحدهم (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).. كما في قصة النمروذ عليه لعائن الله!

وإن أكثر ما يقضي على هذا الخفاش إسرافُه! فيموت غالبا بسبب تسمم الكبد بمعدن الحديد (7) Hemochromatosis! ذلك أن الخفاش يسرف في السطو على الثمار الناضجة وهي غنية بالحديد خاصة رُطب التمر.. وقد خلق اللهُ في كبده خاصية تخزين الحديد بكثرة! فيتراكم المعدن في كبده ومن ثم يقتله ولو لم يُسرف لم يقتله! وهكذا الطغاة! يموت أكثرهم بسبب الإسراف في الخمر أو الطعام والنساء! وقد يُقضى على أحدهم في مغامرة محلية أو دولية لجني المزيد من السلطة والنفوذ أو بسط السيطرة وضم أراض جديدة لسلطانه الجائر..

يود الفتى أن يجمع الأرض كلها       إليه ولما يدر ما الله صانعُ

فقد يستحيل المالُ حتفا لربه          وتأتي على أعقابهن المطامعُ

ولا تتصور أن الخفاش يعيش وحيدا فريدا لأنه يطير ثم يسكن إلى كهف رطب! فأولا الخفافيش تعيش في قطعان كثيفة العدد متفاهمة غير متصارعة قد يصل القطيع الواحد إلى 9000 خفاش.. تسكن سويا لكنها تصطاد منفردة.. وثانيا فإن هناك عالم من الطفيليات العنكبوتية الدقيقة يعيش ويتكاثر في فراء الخفاش! ينتفع بالمعيشة في فرائه ولا يضره ضررا كبيرا(8)! وهكذا الطغاة! يتعاونون فيما بينهم على شعوبهم ويتحالفون متآمرين على غيرهم من الحكام العادلين.. يتآزرون في السيطرة العامة وينفردون بشعوبهم يفترسونها.. وكذلك لابد لكل طاغية من بطانة سوء.. تعيش في كنفه كما تعيش الطفيليات العنكبوتية في فراء الخفاش.. تترمم على فتات حياته قد تمتص بعض دمائه! وقد تقرص أعداءه! لكنها لا تقضي عليه لأن حياتها مرتبطة بحياته.. فإذا مات الخفاش بحثت العناكب الدقيقة عن خفاش جديد تستدفيء بفرائه وكذلك بطانة الطاغية إذا زال سلطانه نظرت طاغية آخر تعيش في كنفه..

ويشتهر هذا الخفاش أنه مخزن حامل لمرض الكلب Rabies disease  لكنه لا يُصاب به أبدًا! هو منيعٌ منه لكن ينقله لمن يعضه(9)! وإن عضة هذا الخفاش مؤلمة جدا يعرفها كل فلاح جرى خلفه وضربه بسعف النخل حتى أسقطه ثم حاول أن يمسك به.. عضة قد تقطع أصبعك! فإذا لم تقطعه نقلت لك داء الكلب! وهكذا الطغاة.. يظهرون في الإعلام لامعين! غاية في النظافة والتمدُّن إلا أن أجهزتهم الإعلامية تعض الناس في عقولهم وتنقل لهم سعار الشهوة وتكبهم على وجوههم في طريق تحصيل المعاش والصراع على ضروريات الحياة.. ينقلون للناس السعار ولا ينسعرون! لأنهم مخزن السعار ذاته.. كالأفاعي تنقل السم ولا تتسمم!

وبمعلومية أن هذا الخفاش لا يتغذى إلا على الثمار تامة النضج التي يتركها الفلاح على الأشجار؛ فإنه آفة لا يعتد بها إلا في بساتين الفلاحين المهملين الذين يتأخرون عن جني محصولهم حتى يسطو عليه الخفاش! وبمثل ذلك الحاكم الطاغية.. لا يستطيع التمكُّن من بلد إلا إذا كان شعبها غافلا أو فاسقا كما قال الله تعالى عن فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)!

ولا تتصور أخي القاريء أن هذا الكائن لا فائدة تأتي من ورائه! فإن حكمة الله الجليلة اقتضت أن في كل محنةٍ منحةٌ للصابرين والراضين، وفي عواقب كل شرٍّ يأتي الخيرُ لأهل الخير.. فرغم أن خفاش الفاكهة يستهلك الأزهار والفاكهة الناضجة إلا أنه يعمل على زيادة المحصول بعد ذلك(10)! سواء لأشجار أخرى في ذات البستان أو لأعوام قادمة! فإن غبار الطلع يعلق بفراء  الخفاش فينقله من الأزهار المؤنثة إلى المذكَّرة! وتعرفون أن النخيل مثلا عسيرُ التلقيح يحتاج من يؤبِّره! فها هو الخفاش يفعلها أثناء طيرانه.. بل إنه ينقل الطلع لمسافات طويلة لا يستطيع النحلُ مثلا أن يطيرها! ومعلوم أن زيادة تلقيح الأزهار تزيد المحصول.. بل إن إخراج هذا النوع من الخفافيش Bat Guano هو سماد ومخصب متوازن عالي الجودة غني بالعناصر الغذائية والمكرويات المفيدة النبات! ويتراكم الإخراج في كهوف الخفافيش التي تقضي فيها الليل.. وهو غالي الثمن لدرجة أن هناك صيادون متخصصون في جمعه من الكهوف وبيعه وربما من كثرته في الكهوف يتم تجريفه بالجرافات الضخمة! وكذلك تنتقل بذورُ الفاكهة صغيرة الجحم مثل «التين» عبر المسافات مع إخراج الخفاش(11).. فيحملها في بطنه وينقلها إلى بساتين بعيدة أثناء طيرانه بحثا عن المزيد.. كل هذه المنافع يجريها القدر من فراء الخفاش وإخراجه دون قصد الخفاش الفاسق! وكذلك الحاكم الطاغية.. كلما زاد ظلمه وطار من موضع إلى موضع يقتنص الأبرياء كلما انتقلت معه روح الثورة على الظلم تلقح الناس حيث حلّ بظلمه وضرب بسوط طغيانه! وكلما نهب الثروات واختزنها فإن الله يقيض لها من ينتفع بها من أهل الحق وكلما أنفقها في الصد عن سبيل الله جعلها الله ترة عليه وسببا في هزيمته أو دحر أتباعه (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)..

ومن العجيب أن بعض الأوربيين يتخذون من هذا الخفاش حيوانا أليفا يربونه في بيوتهم! يطعمونه وينظفونه ويهتمون به! تماما كما تتخذ حكوماتُهم من طغاة الدول الصُّغرى حيوانات أليفة يرُّبونها على مناهجهم ويَسُوسُون بها بلادَهم!

ومن أكثر ما وجدته في هذا الخفاش عَجَبًا أن الفيلسوف وعالم الأحياء الفرنسي E. Geoffroy حين أسماه باسمه العلمي الاتيني Pteropus aegyptiacus سنة 1810 فقد نسبه إلى مصر باسمها الاتيني aegypt والمنطوق بالعربية «القبط» فاسمه القديم هذا يعني «الطائر القبطي» ثم تحول بعد مئة عام إلى اسمه الحالي Rousettus aegyptiacus([12]) أي «الأحمر القبطي» نسبة إلى حُمرة تظهر في فراء بعض السلالات التي عاشت أثناء تسميته! ربما لأن Geoffroy اعتمد على عينات جمعتها الحملة الفرنسية من مصر! لكن يبدو أن للقدر شأن آخر مع هذا الاسم! فمصر هي البلد الذي أفرد اللهُ تعالى لها غير موضع في كتابه العزيز يصف فيه عبر العصور ما كان من فرعونها الطاغية المتألِّه.. فما أشبه هذا الخفاش بالفرعون! وما أشبه طغاة كل العصور بالفراعنة.. يتيهون بنعمة الله عليهم ويكفرون بها ويتألهون على الناس بدلا من التواضع لله وشكر نعمائه ونصرة دينه وخدمة الناس.. فالفرعون في القرآن هو نموذج الطاغية.. والقرآن بستان القلوب.. وخفاش البستان هو  الطاغية النموذج!



[1].  Grzimek, B. (2003). Grzimek’s Animal Life Encyclopedia. Farming Hills, Michigan: Gale Virtual Library.

[2].  Jennifer L. Evarts et. Al. (2004). A Morphological and Immunohistochemical Comparison of Mammary Tissues from the Short-Tailed Fruit Bat (Carollia perspicillata) and the Mouse.

[3].  Nowak, R. (1994). Walker’s Bats of the world. The John Hopkins University Press. Baltimore and London. Pp. 1-46.

[4].  Nutrition Advisory Group handbook (2004). Fruit Bats: Nutrition and Dietary Husbandry. Fact sheet 014. 

[5].  Sanchez F. et. Al. (2006). Ethanol and Methanol as Possibe Odor Cues for Egyptian Fruit Bats (Rousettus aegyptiacus).Epub, 32(6): 1289-300. 

[6].  RA Tedman and LS Hall. The Morphology of the Gastrointestinal tract and food transit time in the fruit bats Pteropus Alecto  and P. Poliocephalus (Megachiroptera). 

[7].  Crawshaw G. et. Al. (1995).  Hemochromatosis (Iron Storage Disease) in Fruit Bats.  Metropolitan Toronto Zoo, Toronto, Ontario, Proceedings of the First Conference on Zoo and Wildlife Nutrition, AZA Nutrition Advisory Group, Scarborough, OT. 

[8].  Massamba SYLLA et. Al. (1997). Description of Alectrobius camicasi, a parasite of fruit bats Rousettus aegyptiacus occidentalis in Senegal. Acarologia, 3:240-253. 

[9].  Rob Rayner (2004). A review of EBLV and the status of bats in Scotland. Scottich Natural Heritage. Commissioned report No. 063. 

[10].  Izhaki et. Al. (1993). The effect of bat (Rousettus aegyptiacus) dispersal on seed germination in eastern Mediterranean habitats. Oecologia, 101:335-342. 

[11].  Elizabeth R. Dumont et. Al. (2004). Preferences of fig wasps and fruit bats for figs functionally diocious Ficus pungens. Journal of tropical ecology, 20:233-238. 

[12].  Gray G. Kwieciniski and Thomas A. Griffiths (1999). Mammalian Species, American society of Mammology, No. 611, pp. 1-9.

 

Exit mobile version