الرّحمة في السلوك الاقتصادي للمسلم (5)

التكافل المالي بين المؤمنين

لخُلق الرحمة أثر في السلوك الاقتصادي للمسلم مع المؤمنين، يقول الله تبارك وتعالى في تصوير سلوكيات المؤمن مع أخيه المؤمن: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً {29}) (الفتح)، ويستنبط من هذه الآية أن من سمات الجماعة المؤمنة الرحمة، كما أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا في الحديث الشريف: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (مسلم).

ومن هذه الآية الكريمة وهذا الحديث الشريف يتضح الجانب العملي في السلوك الاقتصادي للمسلم مع المؤمنين كما يلي:

– أولوية التعامل مع المؤمن في كل شيء، ومن ذلك المعاملات المالية والاقتصادية؛ فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ولقد قال أحد رجال الدعوة: «احرص يا أخي على أن تضع قرشك (مالك) في يد أخ مسلم».

– الالتزام في التعامل مع المؤمن ومع غير المؤمن بأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، ليكون الجميع قدوة ونماذج عملية في إقامة الدين ليعم الخير والرحمة على الجميع، ولقد تمكن المؤمنون في صدر الإسلام من بناء الدولة الإسلامية، وطبقوا فيها الشريعة في كافة جوانب الحياة ومنها الاقتصادية.

– تطبيق أسس ونظم التكافل الاقتصادي بين أعضاء الجماعة المؤمنة فهذا رحمة وألفة، وأساليب ذلك الزكاة والصدقات والقرض الحسن والتبرع والهبة والوصايا والوقف وما في حكم ذلك.

– تجنب ما نهى الشرع عنه عند التعامل مع المؤمنين ومع غير المؤمنين، وفي هذا المقام يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى ها هنا (ويشير إلى صدره ثلاث مرات) بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» (مسلم).

ولخُلق الرحمة أثر في السلوك الاقتصادي للمسلم مع الناس؛ حيث يعتبر التزام المسلم بالقيم والأخلاق بصفة عامة في كل علاقاته مع الناس بصرف النظر عن دياناتهم وأجناسهم قدوة ونموذجاً عملياً يحتذى به، ويظهر ذلك جلياً في المعاملات المالية والاقتصادية؛ حيث إنها المختبر الحقيقي لأثر هذه القيم على سلوكه في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء، ولقد عبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلمفقال:

«غفر الله لرجل من قبلكم، كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، سهلاً إذا اقتضى» (الترمذي)، ولقد ربط الرسول صلى الله عليه وسلم السماحة بخلق الرحمة، وهذا هو السبيل إلى بقية السلوكيات الطيبة في المعاملات.

ومن نماذج خُلق الرحمة في السلوك الاقتصادي للمسلم مع عامة الناس التي يجب الاقتداء بها ما يلي:

– الوفاء بالعهود والعقود وبالمكاييل وبالموازين وما في حكم ذلك رحمة، يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {8}) (المؤمنون)، فالوفاء رحمة.

– السماحة في المعاملات؛ لأنها تؤدي إلى توثيق الحب والتيسير، فالتسامح في المعاملات رحمة.

– النصيحة بما ينفع الناس؛ لأنها تقوي الثقة في المعاملات، وأصل ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، فقلت لمن يا رسول الله؟، قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم» (مسلم).

– التيسير على المعسر إذا تيقن ذلك، ولقد ورد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «تلقت الملائكة روح ممن كان قبلكم، فقالوا: عملت من الخير شيئاً؟ فقال: لا، قالوا: تذكر، فقال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن ينظروا المعسر، ويتجوزوا عن الموسر، قال: فقال الله: تجاوزا عنه» (البخاري ومسلم).

– الصدق والأمانة، فلقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم التاجر الذي يرضي الله، فقال: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» (الترمذي).

– التبيان والشفافية؛ لأنهما أساس البركة في الأرزاق، وأصل ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما» (البخاري).

ولخُلق الرحمة أيضاً أثر في السلوك الاقتصادي للمسلم مع المجتمع (الوطن)؛ حيث يلتزم المسلم القيام بالوفاء بحقوق المجتمع التي شرعها الله، وأن يكون رحيماً بما فيه من مخلوقات، ومن نماذج ذلك المحافظة عليه وعدم الإضرار به وبمن يعيشون فيه ويتعاون معهم على الخير والمنفعة، ودليل ذلك من القرآن الكريم:

قول الله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2}‏) (المائدة).

 

Exit mobile version