الرَّحْمَةُ في السلوك الاقتصادي للمسلم (4)

الإنفاق على الوالدين وذي القربى

 

 لخُلق الرحمة أثر عظيم في السلوك الاقتصادي للمسلم مع الوالدين؛ حيث يقود الأبناء إلى البر بالوالدين، والولد العاق يسبب الشقاء لوالديه، فشتان بين ولد يقول لوالديه: «حُسناً» وآخر يقول لوالديه: «أُف»، ولقد صور القرآن هذا السلوك فقال الله تبارك وتعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً {23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً {24}) (الإسراء).

وتظهر آثار خلق الرحمة في الأبناء مع الوالدين عند الكبر والحاجة والعوز، ومن الاختبارات العملية في ذلك السلوك المالي. فقد شرع الله عز وجل على الأولاد واجبات مالية تجاه الوالدين، ومن القواعد في هذا المقام: «الولد وما يملك ملك لأبيه»، والأمر الذي يفرض على المسلم وجوب أولوية الإنفاق على الوالدين وتقديم ذلك على سائر النفقات، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ {215})(البقرة).

فهذه الأولوية في الإنفاق على الوالدين عبادة وطاعة ورحمة وصلة رحم، وكذلك وجوب تقديم الهدايا للوالدين ومنها العينية لتحقيق معنى البر والحب، مصداقاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا» (البيهقي)، فعندما يقدم الابن لوالديه هدية ولو رمزية، فإنه يقوي من رابطة الحب، ويُشعر الوالدين بالرحمة، وفي هذا المقام يجب على الزوجة أن تحفز زوجها على ذلك، كما يجب أن يحفز الزوج زوجته أن تكون بارة بوالديها. ومن المهم في سلوك المسلم الاقتصادي تجنب المَنْ والأذى في الإنفاق على الوالدين، لأن هذا الإنفاق ليس منّة أو هبة أو تبرعاً أو صدقة، ولكنه حق شرعي كفله الله للوالدين، وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {262}) (البقرة).

ومما يجب على المسلم كفالة سداد ديون الوالدين أحياءً وأمواتاً، فهذا من البر بهما، ونموذج من النماذج العملية لخلق الرحمة، وكذلك علاج ما وقع فيه الآباء من أخطاء شرعية في معاملاتهم المالية أثناء حياتهم مثل الكسب الحرام، فهذا من أفضل أنواع البر والرأفة والرحمة بهم ولاسيما بعد الموت. الرحمة الاقتصادية مع أولي القربى لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بصلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب في أكثر من موضع في القرآن، من ذلك قوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}) (النساء).

وقوله عز وجل: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {75}) (الأنفال).

ولقد ركز الرسول صلى الله عليه وسلم على حقوق الأرحام وأمر بوصلها، ففي الحديث القدسي: «أنا الله الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته» (الترمذي). ومن نماذج السلوك الاقتصادي للمسلم نحو الأقربين ما يلي: – وجوب الإنفاق عليهم عند الحاجة من مصرف الزكاة أو من الصدقات، ويعتبر ذلك من البر الذي أشار الله إليه في الآية الكريمة، قال تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177}) (البقرة).

فقدّم الله ذوي القربى عند إنفاق المال على الآخرين. – أولوية إعطاء الزكاة للفقراء والمساكين من ذوي القربى، فمن ذلك ثواب الزكاة وثواب صلة الرحم، ولقد أجاز الفقهاء نقل الزكاة أو تأخيرها لتوصيلها إليهم. – جواز إعطاء ذوي القربى من غير الورثة من التركة، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً {8}) (النساء). – لذوي القربى حق في الغنائم وما في حكمها من النماذج المعاصرة، ومنها أي كسب أو رزق يأتي للإنسان وفيه توسعة عليه، ولقد أشار القرآن إلى ذلك فقال الله تبارك وتعالى: (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {4}) (الأنفال). – أولوية التعامل مع ذوي القربى لدعمهم ولتقوية التراحم ولاسيما في المعاملات المالية مثل: البيع والشراء والقرض الحسن والتيسير وتوظيف أبنائهم وما في حكم ذلك.

(*) أستاذ الاقتصاد الإسلامي

 

 

Exit mobile version