بل خير من ذلك زكاةً وأقرب رحماً

اقتطع رسول الله صلى الله عليه وسلم لربيعة الأسلمي أرضاً وأعطى أبا بكر الصديق أرضاً بجوارها، يقول ربيعة رضي الله عنه: وجاءت الدنيا؛ فاختلفنا في عذق نخلة، فقلت: هي في حدّي، وقال أبو بكر: هي في حدّي، فكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي كلمة كرِهَها وندم عليها، فقال لي: رُدّ عليّ مثلَها حتى يكون قصاصاً فرفض ربيعة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لتقولن أو لاستعدينّ عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلق أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعه ربيعة، فجاء ناس من قبيلة ربيعة فقالوا لربيعة: رحم الله أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك رسولَ الله وهو الذي قال لك ما قال؟

قال ربيعة: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر ثاني اثنين إذ هما في الغار، وهو ذو شيبة في الإسلام، إياكم لئن يلتفتْ فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه فيغضب الله لغضبهما فتهلك ربيعة.

قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، فرجعوا. 

فأتى أبو بكر الرسول صلى الله عليه وسلم وتبعه ربيعة وحده ، فحدثه الحديث كما كان؛ فرفع إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: “يا ربيعة، مالك والصديق؟”، قلت: يا رسول الله، كان كذا وكذا قال لي كلمة كرهها؛ (يعني كَرِهَهَا أبو بكر)، فقال لي: قل كما قلت لك حتى يكون قصاصاً، فأبيت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فلا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر”، فقلت غفر الله لك يا أبا بكر، فولَّى أبو بكر وهو يبكي.

كم درساً في هذه القصة؟ أنا أحصيت منها على قلة علمي عشرة على الأقل وهي مئات.. هذه واحدة.

وأمَّا الثانية “بل خير من ذلك وأقرب رحماً”، قالها معاوية بن أبي سفيان الخليفة لمن ألّبه على عبدالله بن الزبير الذي أرسل إليه رسالة يهدده فيها بسبب اعتداء عمال معاوية على عماله في مزرعة له بالمدينة.

أرسل له جيشاًَ أوله عنده وآخره عندك يأتيك برأسه، لكنّ معاوية كتب له: من معاوية بن أبي سفيان إلى عبدالله بن الزبير (ابن أسماء ذات النطاقين)، أما بعد:

فوالله لو كانت الدنيا بيني وبينك لسلمتها إليك، ولو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق لدفعتها إليك، فإذا وصلك التالي هذا فخذ مزرعتي إلى مزرعتك وعمالي إلى عمالك فإن جنة الله عرضها السماوات والأرض.

فلما قرأ ابن الزبير الرسالة بكى حتى بلَّ لحيته بالدموع وسافر إلى معاوية في دمشق وقبَّل رأسه وقال له: لا أعدمك الله حلماً أحلك في قريش هذا المحل.

وهذه ثالثة وهناك رابعة وخامسة وعاشرة.

قال التابعي أبو عبدالله بن عكيم الجهني، في خطبة له:

لا أُعين على دم خليفة بعد عثمان، فقال رجل متعجباً: يا أبا معبد، أو أعنت على دَمِه؟ فقال أبو معبد: إني لأرى ذكر مساوئ الرجل عوناً على دمه.

وحين علم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بمقتل عثمان قال: اللهم العن قَتَلَتَهُ وشُثّامه، إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا، فاتخذوا ذلك سُلّماً إلى الفتنة.

إذا كانت النصيحة في الملأ فضيحة حتى مع صِدْقها واكتمال أدواتها، فما بالك إن أصبح ملأ اليوم الفضاء كله بسعته، والأعظم إنْ كان المقصود قصداً هو الفضيحة في الملأ وليس النصيحة؟

 

Exit mobile version