التساهل السياسي

بعد مقتل الخليفة عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه، تقلد عثمان بن عفّان إمارة المؤمنين.. فتلطّف للرعية.. وحنَّ عليهم.. وترفّقَ بهم..

بعد مقتل الخليفة عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه، تقلد عثمان بن عفّان إمارة المؤمنين.. فتلطّف للرعية.. وحنَّ عليهم.. وترفّقَ بهم.. وألانَ لهم جانبه، وخفض جناحه بما يزيد على حاجتهم.. فتناوشته الضباعُ الخسيسة بدعايتها المضادّة وإعلامها المُغْرِض؛ حتى تطاول عليه السوقة والدهماء فلم ينج من لمز كثيرٍ من الناس.. حتى بلغ حدُّ التغرير به أن رماه بعضُ أبناء أصحابه بالحجارة استخفافاً به وانتقاصاً من شأنه.. ثم دَفَعَ في الأخير حياته واستقرار دولته ثمناً لسياساته المتساهلة التي لم تكن الأنسب لواقعه رضي الله عنه.. فكيف به لو قطع لسانَ فتنةٍ يهرف فيها كُلُّ أحدٍ بما يعرف أو لا يعرف صيانة للأمن القومي من الفوضى.. وأخذاً على يد كل مغامر لا تغادر فكرةُ الاستيلاء على السلطة خياله المريض؟!

وحاشا ألا يكون سيدنا عثمان متساهلاً، فالتساهل معناه التسامح، وهو خلاف التشدد، لكنَّ أقواماً لم يكن يصلح معهم في فتنةٍ إلا شِدّة عمر رضي الله عنه، ولم يكن سيدنا عثمان بالشديد في موقفه، وقد يكون تصرفه رضي الله عنه سليماً من الناحية الأخلاقية والشرعية – رغم كونه رضي الله عنه غير معصوم – لكن موقفه من الناحية السياسية كان بخلاف الأوْلَى في تقدير المؤرخين!

ولقد ظللت أدرس التاريخ خمس عشرة سنة، لم أرَ حاكماً أو زعيماً أو رئيساً تساهل في فتنةٍ فلم يحزم أو يحسم إلا ودفع حياته ثمناً لموقفه المتساهل، فصار مرمًى لسهام اللوم العاتب والنظر الشامت.. أقول هذا بمناسبة ما يسود ساحة الإسلاميين من حيرة منهجية أورثت البعضَ توتُّراً وارتباكاً وتموقعاً مجالياً لا يحقق لمتبوئه رؤية دقيقة للأشياء.. فكان التناقُض والاضطراب الموقفي! ونحن هنا أتحدث عن مبادئ.. مبادئ وحسب، دون الاستغراق في تفاصيل أو سرد حالات تساهلية كلفت أُمَماً وشعوباً حاضرها ومستقبلها. 

ولكيلا نقع فريسة لخلافاتٍ مبعثها سوء الظنَّ أو سوء الفهم ثم سوء التقدير، سأضطرّ في هذا السياق إلى تجاوز الحالة المصرية، لكونها درساً ماثلاً لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وسأشرع في الحديث متمثِّلاً حالة السلطات التركية التي أعلنت مؤخّراً حجبَ موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» حجباً جُزئياً – لكنه يسمح بتداول الرسائل النصية – في بعض المناطق التركية نتيجة رواج بعض الشائعات قبل الانتخابات البلدية التي رأتها الحكومة التركية “تشويشية” تنال من عدالة سير العلمية الانتخابية. 

وقبل أن أسطِّرَ هذه الكلمات تواصلت مع صديق فلسطيني مقيم بإسطنبول مستفسراً عن ملابسات الموضوع، فأفادني بأنَّ الخصومات السياسية وتجاوب المخابرات الأمريكية مع النَّفَسِ الانقلابي الذي يتردد في صدور المعارضين، فضلاً عن تساوقها مع إعادة إنتاج النماذج الانقلابية بنهكةٍ شرق أوسطية رغم معطيات البيئة الأوروبية.

وعلى الرغم من معارضةِ بعض المنتمين للتيار “الأردوغاني” هذه الخطوة.. لكنَّ الرأي السائد في أوساط المحللين والنخبة يعتبرونها إجراءً ضرورياً دوائياً مؤقَّتاً.. نابعاً من الرغبة في التأكيد على النقاط التالية:

-ضرورة احترام إدارة موقع “تويتر” لخصوصية القوانين التركية.

-وضع حَدٍّ للمزايدات السياسية المتبادلة؛ حتى لا تتكرر مأساة دول المنطقة، فأمن تركيا القومي واستمرارية برامجها التنموية فوق كل اعتبار حزبي أو تعصبيات سياسية.

-الإجراء مؤقَّت، ولا حاجة للتأويلات الخارجة عن حدود المعقول.

وهنا، أجد من المهم التنويه بنقطة مبدئية، ألا وهي: أنَّ دولة المؤسسات والقانون يُستَبْعَد أن يؤخذ فيها قرارٌ مثل هذا بطريقةٍ فردية “أردوغانية”، وإذا تسَنَّى للبرلمان التركي أو القانون التركي أن ينتهي إلى قرارٍ صعبٍ مثل هذا، فينبغي ألا ننسى أنَّ هذا القرار نازعٌ عن إرادة برلمانية تعكس إرادة مَن انتخبوها.

والملاحظ كثيراً من المثقفين العرب قد تداولوا خبر حظر “تويتر” بمنهجية الاستباق الحُكْمِي، وانبروا اتهاماً وهجوماً وكأنَّنا لم نتعلم الدروس، ولقد كان مُؤمَّلاً من الذين هم مع “أردوغان” مختلفون.. ألاّ يُسرفوا في نقده والانتقاص من إنجازات حكومته، ونقض برامجه بلا مبرر منهجي أو مُسَوِّغٍ قانوني أو عُرفي أو أخلاقي، ودون تقديم تصورات لحلولٍ بديلة لمشكلاتٍ تنشأ عن تنافس سياسي يفتقر لأدنى درجات المسؤولية الأخلاقية؛ الأمر الذي يمكن أن يترتب عليه انفراط عقد بلدٍ آخر بعد فوضى قد شاركنا في صنعها بصورة أو بأُخرى… فنكون كالتي نقضت غزلها من بعدِ قوة أنكاثاً، إذْ يبدو أنّنا مع كل أسفٍ وكأنّنا نتلهف على سقطة أو نتلمّس زلة حتى تكون مُسَوّغاً شكلياً لننبري سلقاً لِمَنْ نختلف معهم بألسنة حِداد!

وما الضير إذا اقتضت المصالح البلاد منعاً أو تمريراً لوسائل يمكن أن تصون البلاد على العباد، وعلى الرغم من عراقة بريطانيا ديمقراطياً لكنَّها لَمّا تعرّضت لموجةٍ من فوضى الملثمين قال وزير داخليتها قولته الشهيرة: «أمام أمن بريطانيا فلتذهب حقوق الإنسان إلى الجحيم»، وهنا لا أريد إعادة إنتاج المقولة تبريراً لإجراءٍ استثنائيٍّ عابر، كذلك ينبغي ألاّ تُفْهَمُ العبارة بالمنهج الانقلابي الذي يعكس منطق قُطّاع الطُّرُقِ.. منطق الجور والإغارة والاختطاف سلباً ونهباً، وقتلاً وسحلاً، وسجناً وتخويفاً وترويعاً.. فإذا خرج الناس يتظاهرون رفضاً للظلم الواقع بهم واسترداداً لمغصوبهم عوملوا بمنطق الوزير البريطاني، كلا، فلا يُعقل أنْ تنتظر السلطات التركية لتسلم نفسها إلى وتيرة الفوضى الشرق أوسطية، فتقع فريسة لانقلابٍ ظالمٍ على شرعيتها السياسية والدستورية، فيصيرون أثراً بعدَ عينٍ، ثم يُتَّهَمُ المعارضون في وطنيتهم.. فيتم تبرير قتلهم حسماً لفتنة، وحزماً لأمرٍ مبنِيٍّ في أصله على أساسٍ باطلٍ وغير شرعي.   

ثمّ إننا لو افترضنا، افتراضاً، أن موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» الأكثر شهرة بين أوساط النخبة قد تَمَّ حجبه في بلدٍ كتركيا بصفة استثنائية مؤقتة.. فهل منطق التحليل الموضوعي يمكن أن ينتهي إلى وصف جهة المنع بأنها طاغية ظالمة مُستبدة؟ وهل اتخاذ مثل هذه الإجراءات الاستثنائية الناعمة صيانةً للأمن القومي في بلدٍ تتسوره التحديات من كل مكان يمكن أن يوصَفَ بأنه طغيان أم منع التعبير عن الرأي؟ وهنا نطرح سؤالاً آخر عن مدى المشروعية الدستورية والقانونية لِما يمكن أن يقدم عليه المسؤولون من قراراتٍ استثنائية في بلدٍ يرونها مهددة بخطرٍما؟

ثم إنَّنا نترقب انتخابات بلدية على الأبواب، وسيكون بوسع الأتراك اختيار ما يرونه جديراً بحماية مكتسباتهم الديمقراطية، وأميناً على تجربة التنمية والنهضة في بلادهم، ولدى النتائج الانتخابية يؤاخَذُ كُلٌّ سياسياً بجريرته.. وعلى الرغم مِنْ أنَّ حكومة “أردوغان” ليست من الغباء السياسي الذي يدعوها إلى اتخاذ مثل هذه الإجراءات، وهي على أعتاب مرحلة انتخابية من المكن أن يخسروها بسبب هذه الإجراءات ثم يقدمون على اتخاذها! هذا غير معقول، ولعل هذا ما يرجّح أنَّ للقرار أسباباً أخرى.

 

Exit mobile version