تجديد النظر في قضايا المرأة عند الشيخ الغزالي

من آثار ابتعاد المسلمين عن عصر الوحي والنبوة والخلافة الراشدة تشوُّه رؤيتهم الكلية وتصوراتهم وربما انحراف كثير من المفاهيم التي تؤسس لثقافتهم وحركتهم ونشاطهم أيضاً، كما أن توقف حركة الاجتهاد الفكري والفقهي في الأمة جعلها أسيرة لما وصل إليها عبر التاريخ في غير صورته الحقيقية من أفكار وأحكام ارتبطت بزمان ومكان محددين، أو أسيرة لأفكار وأحكام أصابها ما أصاب الأمة من عوامل انحطاط وانحدار حضاري.

كانت الرؤى التي قدمها الشيخ المجدد محمد الغزالي بمثابة ثورة فكرية قبل أن تكون فقهية -فيما يتعلق بمسألة المرأة في واقع الأمة المعاصر- وتمحور اهتمامه في هذه القضية بإعادة تحرير المفاهيم والمصطلحات التي تروج لها في هذا الميدان، كما اهتم أيضاً بتقعيد قواعد هذا التجديد الفكري ليكون مساراً تأسيسياً في معالجة القضايا التي جمد فيها العقل المسلم واستسلم فيها لفقه البداوة، على حد قوله.

ومن المفاهيم التي أعاد الشيخ المجدد محمد الغزالي تحريرها:

القوامة:

يقوم منهج التجديد هنا على جانبين:

الأول: «تخلية» لما هو قائم، حيث ينفي أن يكون مفهوم القوامة هو «حق الاستبداد والقهر للرجل تجاه المرأة، واعتبار أن ذلك هو تطبيق لحدود الله([2]).

أما الجانب الثاني فهو «التحلية»؛ ويتضمن تناول القضية من خلال مقاصد الإسلام في بناء الأسرة وفي العلاقات الزوجية بصفة أخص، ويذكر في ذلك قوله: لقد وصف الله مكان المرأة من الرجل ومكان الرجل من المرأة بهذه الجملة الوجيزة: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) (البقرة: 187)، وإذا كان البيت المسلم مؤسسة تربوية أو شركة اقتصادية فلا بد له من رئيس، والرياسة لا تلغي أبداً الشورى والتفاهم وتبادل الرأي والبحث المخلص عن المصلحة، إن هذا قانون مطرد في شؤون الحياة كلها، فلماذا يستثنى منه البيت؟

ويؤكد الشيخ محمد الغزالي -في النظر لمفهوم القوامة- مركزية مفهوم الشورى في العلاقة الزوجية والأسرية على اعتبار أنها مبدأ اجتماعي أصيل في العلاقات الإسلامية، ويرى في ذلك: أن قوله تعالى في صفة المسلمين: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى: 38)، نزل في مكة قبل أن تكون هناك شؤون عسكرية أو دستورية، وعموم الآية يتناول الأسرة والمجتمع.. إن القوامة للرجل لا تزيد على أن له بحكم أعبائه الأساسية وبحكم تفرغه للسعي على أسرته والدفاع عنها ومشاركته في كل ما يصلحها أن تكون له الكلمة الأخيرة -بعد المشورة- ما لم يخالف بها شرعاً أو ينكر بها معروفاً أو يجحد بها حقاً أو يجنح إلى سفه أو إسراف، ومن حق الزوجة إذا انحرف أن تراجعه وألا تأخذ برأيه وأن تحتكم في اعتراضها عليه بالحق إلى أهلها وأهله أو إلى سلطة المجتمع الذي له وعليه أن يقيم حدود الله.

الحجاب:

ظهرت دعاوى عديدة تروج أن المرأة يجب ألا يرى منها أي شيء، وأنها يجب أن تغطي جميع جسدها، وقد أوضح الشيخ الغزالي في هذا الصدد: أن الإسلام أوجب كشف الوجه في الحج، وألفه في الصلوات كلها، ومعنى ذلك أنه لا حجة لمن يقول: إن كشف الوجه حرام، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الوجوه سافرة في المواسم والمساجد والأسواق، فما روي عنه قط أنه أمر بتغطيتها، ويذكر قوله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور: 30)، ويتساءل: أيغضونها عن القفا والظهر؟! فالغض يكون عند مطالعة الوجوه بداهة، وربما رأى الرجل ما يستحسنه من المرأة فعليه ألا يعاود النظر عندئذ، كما جاء في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: «يا عليّ، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة».

ولاية المرأة:

من القضايا المهمة في موضوع المرأة التي تعرض لها الشيخ الغزالي قضية ولاية المرأة، وهو موضوع استغله أعداء الإسلام وراحوا يروجون به من أن الإسلام يكره النساء ولا يرى للمرأة من وظيفة سوى المنزل ووظائفه، استناداً إلى الحديث الشريف: «خاب قوم ولوا أمرهم امرأة».

والشيخ لم يرد هذا الحديث، بل أوَّله بأنه ورد في مناسبة معروفة وفي سياق خاص، فلا ينبغي أن يتعدى موضعه ولا يجوز إغفال أسباب ورود الحديث وسياقاتها الخاصة وتعميم دلالاتها بصفة مطلقة، فهذا قد يؤدي إلى عكس ما قصده الشارع.

ويقول: إنه يجب أن نلقي نظرة أعمق على الحديث الوارد ولسنا من عشاق جعل النساء رئيسات للدول أو رئيسات للحكومات، إننا نعشق شيئاً واحداً أن يرأس الدولة أو الحكومة أكفأ إنسان في الأمة، إن معنى هذا الحديث -الصحيح متناً وسنداً- قاله النبي صلى الله عليه وسلم عندما كانت فارس تتهاوى تحت مطارق الفتح الإسلامي كانت تحكمها ملكة مستبدة مشؤومة؛ الدين وثني، والأسرة المالكة لا تعرف شورى، ولا تحترم رأياً مخالفاً، والعلاقات بين أفرادها بالغة السوء، قد يقتل الرجل أباه أو إخوته في سبيل مآربه، والشعب خانع منقاد، وكان في الإمكان، وقد انهزمت الجيوش الفارسية أمام الرومان الذين أحرزوا نصراً مبيناً بعد هزيمة كبرى، وأخذت مساحة الدولة تتقلص، أن يتولى الأمر قائد عسكري بوقف سيل الهزائم، لكن الوثنية السياسية جعلت الأمة والدولة ميراثاً لفتاة لا تدري شيئاً، فكان ذلك إيذاناً بأن الدولة كلها إلى ذهاب، في التعليق على هذا كله قال النبي الحكيم كلمته الصادقة فكانت وصفة للأوضاع كلها([3]).

ثم يذكر الشيخ الغزالي مثالاً آخر أورده القرآن الكريم، وهو قصة ملكة سبأ –بلقيس- ويستنكر هل هذا النوع من النساء يخيب من ولوا أمرهم منه؟! إن هذه المرأة أشرف من الرجل الذي دعته ثمود لقتل الناقة ومراغمة نبيهم، ثم يذكر من التاريخ الحديث والمعاصر مواقف أخرى للنساء، فإنجلترا بلغت عصرها الذهبي أيام الملكة فيكتوريا، وبلغت في عصر مارجريت تاتشر قمة الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي، فأين الخيبة المتوقعة لمن اختار هؤلاء النسوة؟

كما ذكرنا الشيخ الغزالي بالضربات القاصمة التي أصابت المسلمين في القارة الهندية على أيدي أنديرا غاندي، وكيف شطرت المسلمين إلى شطرين فحققت لقومها ما يحبون، على حين عاد المارشال يحيى خان يجر أذيال الخيبة.

من الدعوات المهمة التي جاءت خلال نظر الشيخ في موضوع المرأة دعوته لتأسيس وعاء معرفي أكثر اتساعاً تنصهر فيه موضوعات المرأة المسلمة، وما يتعلق بكل علاقاتها الزوجية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية، هذا الوعاء هو “علم اجتماع” الأسرة من المنظور الحضاري الإسلامي، ويرى أننا لو سارعنا إلى إنشاء علم اجتماع إسلامي؛ تلتقي قضايا الأسرة كلها إلى جانب ضروب التعاون والتلاقي بين طوائف الناس المختلفة، ولكننا ما زلنا نحبو في هذا المجال مكتفين بالترجمة والتقاليد، مع أن العلوم الإنسانية في برامجها الجديدة تمس كيان الأسرة من زوايا كثيرة، بل إن علوم التربية والأخلاق والاقتصاد والاجتماع -قبل علم القانون- تتصل بشؤون الأسرة([4]).

ويمكن أن نخلص إلى مجموعة من القواعد التي تحدد معالم منهجية التجديد في موضوع المرأة عند الغزالي، وهذه القواعد هي:

1- العودة إلى النبع الصافي للأمة (القرآن الكريم)، باعتباره المرجعية العليا للتشريع والثقافة والتربية في المجتمع الإسلامي.

2- التبين من الأحاديث التي راجت على ألسنة عوام الناس وربما خواصهم على أنها أحاديث صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل “صوت المرأة عورة”، وهي ليست كذلك.

3- والتمييز بين أحاديثه صلى الله عليه وسلم التي ارتبطت بمناسبات معينة، ولا يمكن أن تؤخذ على إطلاقها بصفتها حكماً مثل حديث «خاب قوم ولوا أمرهم امرأة».

4- التمييز بين أحاديث التشريع العامة للأمة والأحاديث الخاصة ببيت النبي وحالته؛ أي بين هو ما تصرف للنبي بصفته مشرعاً، وتصرف النبي كونه زوجاً.

5- الوقوف على ارتباط الآراء الفقهية بمقاصد الشريعة الإسلامية ومدى تحققها في واقع المرأة، وواقع الأسرة والمجتمع عموماً.

_______________________________

([1]) العدد (2123)، ذو الحجة 1439هـ/ سبتمبر 2018.

([2]) قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة. ص 154.

([3]) انظر: محمد الغزالي: السُّنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، ص 56 وما بعدها.

([4]) قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة، ص 156.

Exit mobile version