إعادة إنتاج الأخطاء في صور جديدة

 

«حكايات في التعليم والتعلم».. سلسلة تفتح بابًا للنقاش في بعض الموضوعات الشائكة والمفاهيم المغلوطة والأسئلة الخاطئة في التعليم والتعلم، ليست موجهة للتربويين فقط، ولكنها موجَّهة لكل قارئ، فنحن جميعًا متعلمون أو معلمون في كل موقف.

 

إعادة إنتاج الأخطاء في صور جديدة

عانى في طفولته من ضغط والديه عليه: ذاكر.. ذاكر.. ذاكر.. يجب أن تدخل كلية الهندسة.

لماذا نقصت درجتين في هذه المادة؟

نحن في أيام امتحانات، لا وقت للعب والتنزه!

يجب أن تكون مثل فلان..

 لماذا فلان أفضل منك؟

يمكنك، عزيزي القارئ، أن تسمع صوتًا لهذه الكلمات، نعم إنها تشبه ما كنا نسمعه أحيانًا ممن حولنا في العائلة أو المدرسة أو الجامعة!

مرت السنوات وأصبح ذاك الطفل مهندسًا مرموقًا في إحدى الشركات، لكنه كان يبحث عن نفسه وذاته، لم يجد داخله سوى أحلام وأمنيات والده الشخصية.

بعد زواجه بأشهر أخبرته زوجته بأنها حامل، فورًا مر شريط طفولته في ذهنه وقرر ألا يكرر خطأ والديه معه.

كان قرارًا جادًا جدًا: لن أعيد تكرار ما عانيته وأنا طفل، لن أجبره على شيء، لن أضغط عليه في الدراسة، سأتركه ينام ويلعب كما يريد، لا أريد أن أفسد شخصيته كما فعل والدايّ.

دعونا نتخيل ما سيحدث!

سيكبر هذا الطفل الصغير ولم يعتد أن يلتزم بشيء، لأنه دائمًا كان يقوم بما يريد فعله فقط، يذاكر عندما يريد أن يذاكر، يخرج مع أصدقائه مهما كانت الظروف طالما هو يريد ذلك، عندما يكون لديه اختبار في الصباح ويشعر أنه لا يرغب في المذاكرة؛ يقرر تأجيل الاختبار، وعندما يكون يافعًا لن يستطيع أخذ نفسه بالعزم إذا كانت الظروف تضطره للاستيقاظ مبكرًا، أو لتقديم المساعدة لأخته الصغرى، أو تحمل بعض الصعاب في الجامعة أو العائلة.

تخيَّلوا معي مستقبله، إنه صورة من ذات الخطأ الذي عانى منه والده، ولكن على النقيض.

قال ذلك لصديقه ذات مساء وهو يشكو لهم أنه ترك عمله الجديد: «ليتني وجدت أبي حازمًا معي، كنت سأتعلم الالتزام والمثابرة بدلًا من تركي العمل كل مرة بعد عدة أشهر».

هذا ما يحدث عادة عندما يعالج الآباء ما عانوا منه أثناء الطفولة، فيقومون بتبني ممارسات تربوية في الاتجاه المضاد لما تربوا عليه، حتى لا يكرروا أخطاء آبائهم.

يحدث ذلك دون أن نشعر، ودون أن نقصد، لأننا كآباء عادة ما نريد أن يصبح أبناؤنا الأفضل، لكن دون أن ندري نضمد جراحنا فيهم، فنبالغ ونتطرف في أفكارنا وممارستنا التربوية.

كيف نفكر، إذن، حتى لا نقع في هذا الفخ؟

تصالح مع الطفل الذي بداخلك أولًا:

من المهم أن نتصالح مع ماضينا ومع نشأتنا ولا نضعها في صورة على جدار عمرنا ونطلق عليها السهام؛ لأنها السبب في مآسينا اليوم، ربما نحن صنيعة ماضينا ونشأتنا وما حدث لنا في الماضي، ولكنه انتهى.

إذا أدركنا ذلك، فسنفهم أننا لسنا الطفل الذي كنا عليه منذ عقود، نحن أمام إنسان آخر لديه مطلق الحرية أن يغير في نفسه ما يريد.

هذا الوعي يجعلنا أيضًا قادرين على أن نفرق بين الطفل الذي بداخلنا (نحن كآباء)، والطفل الذي بين أيدينا (أبنائنا).

تعرف على طفلك الذي لا تعرفه:

من المهم أن نفهم أن الله تعالى خلقنا متشابهين من حيث إننا جميعًا نستطيع أن نفكر ونستطيع أن نتكلم، ونستطيع أن نتواصل، وجميعنا لديه جميع القدرات والملكات ولكن بنسب متفاوتة، وهذه النسب ليست ثابتة طيلة الوقت، وفي كل المواقف، فلكل وقت ظروفه وعوامله التي تؤثر على الطفل نفسياً بالسلب أو بالإيجاب.

فربما تعتقد أن طفلك لا يحب الرسم لمجرد أنك أعطيته ورقة ليرسم فيها في وقت كان يشعر فيه بالملل ويريد أن يشاهد فيلمه المفضل، أو تعتقد أنه حركي وبالتالي تضعه في قالب أنه سيتفوق في الألعاب الرياضية فقط، ربما كان كثير الحركة لمزيد من الاهتمام مثلًا!

الأطفال يحتاجون إلى من يكتشفهم جيدًا، ولا يتم وضعهم في قوالب بحسب العناوين الدارجة والشائعة التي قد تستخدم بشكل خاطئ مثل أنماط التعلم والذكاءات المتعددة، واختبارات الشخصية المنتشرة على الإنترنت وغيرها.

الطفل يتطور معرفيًا ووجدانيًا وسلوكيًا في كل مرحلة من مراحل طفولته، ورغم تشابه الأطفال فإن كل طفل مختلف عن أقرانه، وكل طفل حسب ظروف نشأته وقدراته يصنع مشهده الخاص، مهمة الوالدين أن يقتربوا منه ويراقبوا تصرفاته؛ بمعنى: يتركونه يقوم بمهمته أو نشاطه ويقدمون له العون عندما يشعرون أنه لن يستطيع أن يقوم بها بنفسه، نظرية نقطة النمو القريبة تشرح ذلك باستفاضة، ومفيدة للوالدين للتعرف على الفارق بين أن أقدم المعلومة أو المساعدة للطفل دون أن يطلبها، وأن أقدمها عندما يبدأ هو وتظهر الحاجة لديه للمساعدة. (تخيلوا معي الفرق بين أب يمسك يد طفله وهو يكتب الحروف، وأب يراقب ابنه ويتدخل عند الحاجة).

التكرار ثم التكرار هو من يساعد الوالدين على معرفة أبنائهما، تكرار الأنشطة في سياقات مختلفة، تكرار المحاولات بصور وأنماط مختلفة، فالتربية ليست عمليات منفصلة ولا معادلات تخرج نتائجها مرة واحدة فقط، بقيمة واحدة دائمًا.

عندما تعرف طفلك الذي بين يديك، ولا ترى فيه الطفل الذي بداخلك، سوف تتعامل معه بموضوعية إلى حد ما، ربما لا يمكن  إلغاء الذاتي فينا أبدًا، لكن الوعي بهذا الفارق قد يساعدنا على عدم الوقوع في فخ الممارسات التربوية المتأثرة بأزماتنا في الطفولة، فـــ:

– تعلمه المسؤولية والجدية، دون أن تلغي شخصيته وتجبره على ما لا يناسبه.

– تهيئ له بيئة تربوية مرنة وسلسة وآمنه تشعره بالراحة والحرية، دون أن تبالغ في ذلك فيصبح مهملًا تحركه رغباته فقط.

– تراقب تصرفاته وأحواله في اللحظات التي يستكشف فيها شيئًا جديدًا، أو يمر فيها بموقف غريب عليه، أو يتعرض لمشاعر سلبية، هذه المواقف التي يمر بها هي أفضل لحظات يكون فيها الطفل قابلًا للتعلم، لأنه سيكون مستعدًا لتلقي أي معلومة جديدة أو الاستجابة لأي تعديل سلوكي.

وأخيرًا، أنت لست ابنك، وماضيه ليس ماضيك، لكنك قد تفعل ذلك دون قصد فتصنع منه منتجًا صُنع من تمرد الوالدين على ماضيهما، وقلقهما هما من نظرتهما للمستقبل.

Exit mobile version