تجليات المخاض العسير.. التحديات والتبعات والبشريات

 

في الوقت الذي يتعرض فيه المسلمون لحملات شرسة تستهدف عقيدتهم ومقدساتهم، وتاريخهم، بل وجودهم ذاته، فإنه يتعين على المسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم بما استطاعوا، ويقاوموا تلك الموجة العاتية والأكثر شراسة على مدار التاريخ الإسلامي بكل ما أوتوا من قوة، وألا يستسلموا لحالة الاستضعاف والوهن وضعف الهمة والفاعلية التي يريد عدوهم أن يغرقهم فيها ليظلوا في مؤخرة ركب الأمم تابعين لا متبوعين برغم ما لديهم من الطاقات الروحية والمادية التي تجعلهم في موقع الريادة والتوجيه كما أراد الله سبحانه وتعالى، إذ يقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).

زمن المعجزات ولى لكن الفرصة لإنجازات عظيمة لم تزل قائمة

مخاض عسر قبل ميلاد مرتقب

ويقيننا الراسخ أنه برغم شدة وعنفوان تلك الحملات التي تتعرض لها الأمة، فإنه المخاض الذي يسبق الولادة المرتقبة لخير أمة أخرجت للناس من جديد، حيث الظهور الإسلامي الثاني، وعودة الخلافة الراشدة لتبسط أجنحة الرحمة على البشرية مرة أخرى لتتذوق نعمة الأمن والاطمئنان، من بعد سنوات عاشتها بين الحروب والويلات والشرور، إنه وعد الله الذي نؤمن به كأنه رأى عين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) (النور: 55).

بيد أن عودة الأمة لسابق عهدها، وقديم مجدها، وسالف عزها لن يكون بغير تضحيات جسام من مخلصي أبنائها في كل ميدان، حيث يتحتم عليهم أن يعملوا عقولهم بأقصى ما تطيق تقريباً لذلك الوعد الإلهي المبين بإذن الله سبحانه، فوعود الله تعالى غالباً ما يكون تحققها على أيدي أناس بذلوا الجهد لاستنزال وعد الله ونصره وتمكينه.

زمن المعجزات ولَّى لكن..

يقول الناس متهكمين أحياناً على من يطلب تحقيق تغيير كبير في هذه الحياة: إن زمن المعجزات قد ولَّى، ويظنون بذلك أنهم يوهنون عزمات الشباب المتوثب عزمه، المتوقدة همته للقيام بعمل جليل خدمة لأمته؛ يذكر فيشكر ويخلد، إذ تعتدل به الأوضاع المقلوبة رأساً على عقب، ويستقيم به ما اعوج من شؤون الحياة.

وقد يكون كلامهم صحيحاً من وجه، لكنه ليس صحيحاً على إطلاقه من كل وجوهه، فزمن المعجزات ولَّى حقاً؛ أي ما يجريه الله تعالى من أعمال تبدو خوارق للطبيعة برهاناً على صدق رسالة نبي من أنبيائه، وحفزاً للناس على تصديقه والتزام ما أتى به من هداية وفق منهج الله تعالى، لكن من يمكنه أن يصنع ما يشبه المعجزات لغايات يعلمها الله تعالى رحمة بالناس، وتمكيناً للقيم النبيلة في الحياة لم يزل موجوداً، أو يمكن أن يوجد، ويصنع على عين الله تعالى وعلى أعين الناس.

الإنسان المؤهل قادر على تحقيق الكثير ولكن للإنجاز الرفيع شروطه ومقتضياته

الإنجاز الرفيع.. شروط ومقتضيات

لم يزل الإنسان بكل ما وهبه الله من طاقات وقدرات على الفعل، وبما سخر له في هذا الكون ليستجيب لعقله المفكر، وعلمه القائم على النظر والتجريب وطول والبحث والتنقيب، لم يزل هذا الإنسان موجوداً، أو ممكناً وجوده، وإنه ليحقق بالعلم والعمل فيما ترى أعيننا اليوم الكثير والكثير مما يشبه المعجزة سواء في تلك المنشآت المعمارية بينة الفخامة بالغة التعقيد، وتلك المخترعات العجيبة المبتكرة في مختلف مجالات الحياة، وتلك الانتصارات الحربية في معارك الشرف والكرامة الناتجة عن تخطيط محكم، وعبقرية حربية فذة، وعمل دؤوب، وحسن سياسة نادرة.

لقد اقتضت حكمة الله العلية أن تجري الإنجازات المختلفة على الأرض وفق السنن التي وضعها الله تعالى في هذا الكون قوانين صارمة ليستقيم في حدودها أمر هذا الكون وما فيه، ومن سننه الفاعلة في الكون أنه يضرب الحق بالباطل، والباطل بالحق؛ تمييزاً للصفوف، وشحذاً للهمم، واستدامة لبعض أسباب البقاء في صورة سُنة التدافع؛ اختباراً للمؤمنين، وإقامة للحجة على الكافرين والمضلين؛ (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17)، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) (الحج: 40).

من هنا، فإن المعجزات أي الأعمال التي تبدو خارقة لنواميس الطبيعة لم يزل لها أو ما يشبهها في دنيا الناس اليوم مكان، ولكنها لا تتحقق على أيدي أنبياء ورسل مؤيدين بوحي السماء، ولكنها تتم بأيدي الفئة المؤمنة الصابرة المحتسبة الموصولة القلب بالله تعالى، فهي التي تصنع ما قد يظنه الناس معجزات، وما هي بمعجزات، بل إنجازات العقل البشري والنفس البشرية حين تعزم وتحزم وتقدم.

إن انتصارات كثيرة شهدها تاريخ الأمة تبدو في عيون الناس معجزات أو ما يشبه المعجزات، وإلا فكيف انتصر المسلمون في حروب الفتح العظيمة؛ كالقادسية ونهاوند وغيرهما من معارك فتح فارس التي أطاحت بعرش الطاووس الذي امتد آلاف السنين، واليرموك وأخواتها من حروب فتح الشام التي أزالت ملك الروم عن تلك البقاع التي رزحت تحت نيرها دهوراً، ثم الزلاقة التي استدامت الوجود الإسلامي بعدها بالأندلس قروناً، ناهيك عن حروب السلاجقة والعثمانيين التي تحار في بعضها العقول حتى لا تكاد تصدق ما تقرأ كما نرى في معارك ملاذكرد وموهاكس وجناق قلعة وغيرها.

ومما يشبه المعجزات في غير ميادين المعارك ذلك التحول العجيب لشعب مقاتل عنيد شديد التوحش كالمغول من شعب متعطش للدماء إلى شعب مسلم تسخر قوته لخدمة الإسلام بعد أن دمر عشرات الممالك الإسلامية خلال زحفه الهادر، وكان العجيب أن يتحول هذا الغازي الفاتك لاعتناق دين الأمة التي انتصر عليها واستذلها!

أما تلك المعجزات المعمارية في تاج محل بالهند، وقصور الحمراء والتحف الهندسية بالأندلس، وقباب السليمانية والسلطان أحمد بإسطنبول والسلطان حسن والقلعة بمصر وغيرها فهي دليل آخر على ما يمكن أن يسجله العقل البشري المسلم من صور الإنجاز والإعجاز.

العقلية المسلمة ما زالت قادرة على العطاء فلنثق بأنفسنا وقدراتنا

العقلية المسلمة

ولم تزل العقلية المسلمة قادرة على العطاء المعجب، فهذا مهندس شاب مسلم كان له الفضل في تعريب برامج الهواتف الذكية، وآخر يبتكر اللوغاريتمات التي تتحرك بها أجهزتنا الذكية اليوم من حواسيب وغيرها، وثالث كان على رأس فرق تسيير مراكب الفضاء من خيرة العقول الهندسية، ورابع يكتشف «الفيمتوثانية» فيقتنص «نوبل»، وخامس يبتكر طائرة تطير بغير طيار فيكون من شأنها أن تغير موازين المعارك وتصبح رقماً صعباً يحسب له ألف حساب.

نعم، لم تزل خلية الإسلام تعسل، ولكن ستظل المشكلة أن العقول المسلمة لا تكاد تحظى بالرعاية الكافية في أوطانها فتضطر أن تهجر أعشاشها، وتستقر بالغرب لتضيف من قوتها لقوته دون قوة أمتها التي تنتمي إليها فيما يشبه الاضطرار أو الانتحار.

فما يسميه الناس معجزات اليوم هو نتيجة جهود جبارة، وسعي حثيث، وعمل دؤوب، ويضاف إليه في تجربتنا الحضارية المميزة يقين بالله لا ينقطع في رفده ومدده؛ لأن الله جعل من سُننه في الأرض أن يتنزل نصره وتوفيقه على من عمل لهذا النصر في أي مجال من مجالات الحياة.

انتصارات قادمة

وقد تسمى تلك الخوارق للطبيعة التي يمتن الله بها على بعض خلقه كرامات أو نحو ذلك من المصطلحات، لكن الحقيقة تبقى أن هناك فعلاً إلهياً ينتظره المؤمن دوماً ويسعى إليه، موقناً أن بذل غاية الوسع تنتهي دوماً باستنزال دعم إلهي يحسم الأمر لصالح المؤمن في أشد اللحظات حرجاً، ولم يعد في مقدوره من حيلة إلا أن يجأر بالدعاء إلى الله مخلصاً أن يفي له بوعده.

لا ينبغي أن يخيفنا حجم ذلك الهجوم الشرس على أمتنا من كل حدب وصوب، ولا ينبغي أن يفت في عضدنا أو يوهن عزيمتنا ويكسر إرادتنا كل ما حولنا من صور الكيد فندع المقاومة استسلاماً لمنطق الضعف والهزيمة، فهذه غاية ما يريد عدونا، لا بد من مواصلة المقاومة والتفنن في أساليبها كما يتفنن عدونا في أساليب حربه.

نحن على موعد مع إنجازات قادمة.. فلنحرس بعناية أسلحتنا وأمتعتنا

فلنكن على قدر المسؤولية في هذه المرحلة التاريخية، وليحسن كل منا الوقوف على ثغرته، ولنكن على وعي بأبعاد المعركة التي نخوضها ولا نغفل عن أسلحتنا وأمتعتنا فيميل علينا العدو ميلة واحدة.

إن متاعنا الثمين الذي يتعين علينا أن نحميه بأرواحنا ودمائنا يتمثل أول ما يتمثل في هذا التراث التليد الذي ورثناه عن خير الجدود، الذي يتعرض اليوم لحرب شرسة على أيدى من يتسمون بأسماء المسلمين، ناهيك عن غيرهم من شياطين الإنس والجن هنا وهناك، وينبغي ألا ينقص هذا الدين وفينا عرق ينبض، كما كان يزأر الصدِّيق في وجه المرتدين والمخذّلين معاً في لحظته التاريخية الفاصلة: «لا ينقص الدين وأنا حي».

ومن متاعنا الثمين الذي علينا أن نرعاه هذه الأجيال الناشئة المستهدفة بهذه الحرب الضروس والسيل الجارف من القذائف التي لا تتوقف ليل نهار عبر الشاشات الصغيرة والكبيرة في زمن السماوات المفتوحة، والفتنة التي تدخل كل دار.

وتأتي من بعد ذلك مقدرات الأمة مما منَّ الله به عليها من ثروات طبيعية، ومكتسبات حضارية، وقيم أخلاقية، وطاقات بشرية وهي جميعاً في مرمى النيران يصيب منها العدو أحياناً ويخطئ جراء حالة الوهن والاستضعاف التي نمر بها.

إن المخبار في يد العالم بمعمله، والكتاب في يد الشيخ بمسجده، والأستاذ المعلم في مكتبه، والطالب المجد على مقعد درسه، والقلم في يد الكاتب أو المفكر الناصح لأمته، الأمين على قيمها وتراثها التليد، إن هذه الأدوات جميعاً لا تقل خطورة في حسم معركتنا الراهنة عن البارجة والغواصة والطائرة والصاروخ، بل أراها كما أسلفت أبعد أثراً، وأشد خطراً، ومن ثم فإن المهمة الرئيسة والمحورية أمام كتائب طليعة الأمة المدافعين عن بيضتها، وأسرار وجودها أن تضع الأمور في نصابها، وتحسن ترتيب أولوياتها، وشحذ أسلحتها ولتنطلق في طريقها معتمدة على الله وحده موقنة أن النصر قريب، وموعدنا مع الميلاد الجديد لأمة الشهادة والريادة لتعيد إلى الأرض السلام.

Exit mobile version