سلمة بن هشام.. أخو أبي جهل

 

في مَحبَسِهِ، جلسَ بين طبقاتِ الصمتِ المُطْبِقَةِ على المكانِ، بينما داخل نفسِه تمورُ ضوضاءُ الهمِّ، وأمواجُ الألمِ النَّفْسي الكاثرِةُ، لكأنَّه شيَّعَ عزيزاً خلفَ طبقاتِ الصمتِ وأمواجِ الألم..

وبنظرةٍ شَارِدةٍ، وفِكْرَةٍ غَارِبَةٍ يَرْمُقُ اللاشيءَ لكأنَّ خلفَ اللاشيءِ أملاً جميلاً يمدُّ بصرَهُ نحوه، وقد هفا إليه وحنَّ واشتاق..

فماذا كان خلفَ الصمتِ، وخلفَ المحبسِ؟ ووراءَ شرودِ النظرة، وغروبِ الفكرةِ؟

نستنطقُ التاريخَ خبرَهُ.. فيقول:

أسلمَ قديماً، وفي صدرِ شبابِهِ هاجرَ إلى الحبشةِ مع من هاجرَ إليها، ولمّا عادَ منها نالَ نصيبَهُ من فُنونِ الإيذاءِ القرشي المختلفة، وأسْهمَ في رسمِ مشاهدِ الصَّبرِ الرائع التي طفقتْ شوارعُ مكةَ ودُورِها وشِعابِها تُطالعُها على الوجوهِ والأجسادِ المسلمةِ، وطالما تسمَّعتْ إلى خبرِهِ مع أخيهِ أبي جهل.

من أيها التاريخ؟

 أخوه أبو جهل!

نعم فهو سلمةُ بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي، أخو أبي جهل عمرو بن هشامِ الذي آلَمَني، وآلمَ ذاكرَتي بسيرتِه التي التصقَت بلعنةٍ تُلِمُ بها يوماً بعد يومٍ، كان أخاهُ لأبيهِ، وكان أسنَّ منه، ودأبَ على حبسِهِ وتعذيبِهِ حتى يحولَ بينَهُ وبينَ الهجرةِ إلى المدينةِ والحياةِ مع دينه الجديد.

وظل سلمة في سجنِ أبي جهلٍ وعلى وجهه تطفحُ نفسُه بنوعينِ من تعابيرِ المشاعر:

أولهما: مشاعرُ التحدي لأخيه وقومهِ مهما امتد حبسهم له، واشتد تعذيبهم إياه.. وثانيهما: مشاعرُ شوقهِ للهجرةِ التي كانت الأملَ الجميلَ الذي يمدُّ إليهِ بصرَهُ تواقاً من خلفِ الصمتِ، وخلفِ المحبسِ ليكون هناك في دنيا الحبيبِ صلى الله عليه وسلم.

ويصمتُ التاريخُ لالتقاطِ الأنفاسِ، ونستحِثُه على الاستطرادِ، فيستطرد:

ويمرُ يوم سلمة، وعلى نمطِه تمرُ الأيامُ من بعدِه، فكان يومُه نظيرَ أمسِه، ومصبَحُه شبيهَ ممساه، وعلى هذا النمط المفروضِ بأساه طال مرورُ الأيامِ، وسلمةُ يرسلُ أشواقَه أرسالًا(1) إلى دنيا النبي صلى الله عليه وسلمَ بالمدينةِ متربصاً بفرصةِ النجاةِ.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتسمع لأخبارِ سلمةَ مشفقاً ويبادلُه شوقاً بشوقٍ، ويلجأ إلى الله من أجلِه ومن أجلِ المستضعفينَ غيرِه، يقول أبو هريرة رضي الله عنه:

ـكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: «سمع الله لمن حمده» في الركعةِ الآخرة من صلاة العشاء، قَنَت: «اللَّهُمَّ أنْجِ عَيَّاشَ بنَ أبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أنْجِ الوَلِيدَ بنَ الوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أنْجِ سَلَمَةَ بنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ..»(2).

واستجابَ الله عزّ وجلّ دعاءَه صلى الله عليه وسلم، وهيأَ لسلمةَ فرصةَ النجاةِ، فاغتنمها وقصد المدينةَ كالريحِ المرسلةِ، مودعاً باكرةً من حياتِه بشجنِها وعذْبِها، وحلوِها ومرِّها، ليكون حلوله الميمونُ بالمدينةِ الطيبةِ بعد انتهاءِ النبي صلى الله عليه وسلم من غزوةِ الخندق.

ونتمهل هنا متأملين.. كما تمهل التاريخ متأملاً:

ما كادت شمسُ الإسلامِ بخيوطِها الذهبيةِ تُشرقُ على مكة حتى بادرَ أصفياء القلوبِ راجينَ مؤملين، معانقين الدينَ الجديد كأكمامِ الوردِ.. تلكمُ الأوراقُ الخضراءُ التي تغلف الوردَ في أول تفتحه، وجاء سلمةُ بن هشام مثلهم، ولكنه أيضاً جاء غيرَهم، حيث جاء من بيت ليس فوقَ شرفِه شرفُ سوى شرفِ الإسلام، ولا تعلو عزته عزة غيرَ عزةِ الدين الجديدِ، ولكنه كان أعتى بيوتِ قريشٍ وأشدَّها عداوةً لدعوةِ الإسلام والداعي إليها.

أجل من هذا البيت جاء سلمةُ مُعْرِضاً عن شرف قومه أعظمَ الإعراضِ، ومتأبيًا على أسبابِ عزِّهم أشدَّ الإباء، فلئن كانت معالمُ الشركِ، ورفع راية الحربِ على من يدور بخلدهِ اتِّـباعُ الدين الجديد الذي بدأ صداه يتردد في ضواحي مكة وفوق جبالها هي الغالبةُ على البيئة التي يحيا فيها سلمة، فإن الفكرةَ الصادقةَ لا يَحْجبُ نورها حواجزُ الاضطهادِ والإعراضِ، بل يهيئ الله لها أسباب الظهور من تلكم المواطنِ التي تحاول اجتثاثَها، وإذهابَ بريقِها، كما علت تلك الفكرةُ التي حاربها فرعونُ من قصره، وفوق فراشه.

وهاجر سلمةُ واستقر في دنياهُ الراضيةِ الجميلةِ، حيثُ عكست نفسُه مشاعرَها الجديدةَ على دنياه، مدركًا ما في عنقِه من تَبِعاتٍ نحو دينِه مقررًاً تحمُلِها خيرَ التحملِ، وكأن طبيعتَه الإنسانيةَ السويةَ بنزعتِها وميلِها تثأرُ لنفسِها من تأخيرِها عن انطلاقةِ دولةِ الإسلامِ.  

ولأن الطبيعةَ الإنسانيةَ السويةَ قويةٌ في ثأرِها، فقد كان سلمةُ قويًا في مسيرتِه مع الإسلامِ منذ وطئ أرض المدينةِ مهاجراً، وحتى وطِئ لؤلؤَ وياقوتَ الجنةِ شهيدًا.

فمنذ أن استقبلته المدينةُ الطيبةُ راح يتقلبُ في أحضانِها ويُريها في تقلُّبِه واحدًا من خيارِ الصحبِ الكرامِ، فيبادرُ ملبياً دعوات الجهادِ المتواليةِ، لتبدأَ مرحلةٌ بارزةٌ في حياتِه، أودعَها رجولتَه وجهادَه بحماسٍ وحميةٍ في غزواتِ بني قريظة، وخيبر، ووادي القُرى، وتجرَّعَ من أهوالِ وشدائدِ غزوةِ مؤتةِ ما تجرعَ منه إخوانُه لمّا حاصرتهم لسعاتُ نظراتٍ كاويةٍ، وهَمْهَمَات حزينة غاضبة على وجوه منقبضة، علت أصواتُها بالنقد غامزة ولامزة(3) قائلة: الفررارون.. الفررارون..

ما جعله يغلقُ عليه بابه ويمتنع عن الخروج للصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لا شك أن في فكرة النقدِ ما عجزَ الناقدون وقتذاك أن يُدْرِكوه، ولا ريب أيضاً أن هذا النقد لم يدعْ النفوسَ الحساسةَ لسلمةَ وأصحابِه نهبًا لأسىً يعتصرُها، وإن ترك فيها آثارًا شجيةً باهتةً تلاشت سريعاً كالشهب لمّا تَصدَّرت عزائمُهم الصادقةُ مشهدَ الأفكارِ والمشاعرِ، وأضفى صفاءُ إيمانهم بالله، ونقاءُ صِدْقِهم معه عز وجل بريقًا غدا بين حنايا نفوسِهم ورفض أن يروح، ولمع بين ثناياها وأبى أن ينطفئ، وجعل يهزُّ ضمائِرهم برفقٍ ويتردد فيها رهوًا لينًا:

إنهم يعملون لله ولله فقط، وإن العملَ لغير الله فكرةٌ لا شأنَ لهم بها، ولا شأن لها بهم.. فكان البلاغُ من عزائمِهمُ الصادقةِ التي لا تُـقعدُها هَمْهَمَاتُ القادحينَ، أو حتى عباراتُ المادحين.

ويمر وقتٌ يعلمُ الله أمدَه، وفي دهاليز عقولِ سلمةَ وأصحابِه تجري فكرةُ النقد حيرى، وفي نفوسهم تتناثرُ التساؤلاتُ التي تتوقُ إلى بيانٍ يترددُ صداهُ في جنبات المدينةِ الطيبة يُجلّي ما حدثَ في مؤتة.

حتى صدر البيانُ من النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما حدثَ في مؤتةَ ليس هزيمةً، وإنما هو انسحابُ موفقٌ من كارثةٍ محتومة.

وصعدَ صلى الله عليه وسلم إلى الرفيقِ الأعلى، وبقي سلمةُ في مسيرتِه الجهاديةِ، فقاتلَ الرومَ مع جيشِ أبي بكرٍ في جمادى الأولى من السنةِ الثالثةِ عشَرَ هجرية، وساهم بجهدٍ موفورٍ في رسمِ لوحةِ نصرٍ باهرٍ في معركةِ أجنادين.

وتوفي أبو بكر رضي الله عنه، وبقي سلمةُ في مسيرتِه الجهاديةِ، فخرجَ مع جيشِ عمر رضي الله عنه إلى معركةِ «برجِ الصفرِ»، ويومَها رآه التاريخُ يندفعُ نحو العدوِ كالقذيفةِ، ويرسمُ لوحةً نادرةً لعبقريةِ القتالِ، لوحةً تشي بصدقِه مع ربِه، وما صدقَ مسلمٌ مع ربِه إلَّا وجاءته المكافأةُ الربانيةُ تسعى، وجاءت سلمةَ مكافأتُه لمّا تناثرَتْ قطراتُ دمِه العطرِ على أرضِ المعركةِ كقطراتِ ندى بللتْ خضرةَ مسيرتِه بالبهجة.

وسقطَ شهيداً، سقطَ ليصعدَ، وتسابقتْ ملائكةُ ربِه إليهِ لتتلقَاهُ حانيةً، وتزفَّهُ في رحلةِ الصُّعودِ(4).

 

 

 

 

____________________________________

(1) أرسالًا: أفواجًا وجماعات.

(2) حديث صحيح، أخرجه البخاري (6393).

(3) الغمز واللمز: يأتيان بمعنى السخرية والتعييب بالعين أو باللسان أو باليد.

(4) راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 85)، والاستيعاب (1032)، والإصابة (3415)، وأسد الغابة (2190).

Exit mobile version