عبدالله بن زيد.. والأملُ المَخْبُوء

 

في يومٍ ولَجَ بيثرِب إِلى عالمِ الكرَامَةِ والتَّقْديرِ حطَّ المهاجِرُ الأعظَم صلَّى الله عليه وسلم رحالَهُ بها، ومن يومِذاك اسْتَلَّ عبدالله بن زيدٍ إِرادَتهُ نُصْرَةً للدِّين وفي يوم أُحُدٍ كانت البدايةُ التي قالت عنها أمُّه أمُّ عِمَارَة: رَأَيْتنِي يومَ أُحدٍ وَقَد اِنكشَفَ النَّاسُ عن رسول الله، فما بَقيَ إِلَّا نفرٌ ما يتمُّونَ عَشرةً وأنا وابناي وزوجي بين يديهِ نَذُبُّ(1)عنه..

وتشِي الأَحداثُ بأنَّ أمَّ عِمَارة وزوجها وولَديْها عبدالله، وحبيباً، أنزلوا أنفسهم من النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلَةَ عَيْنيهِ وَيَدْيهِ يَدْفَعُونَ عنه ما يحِيقُ به من خطرٍ، وكُلُّ منهم يُرِي الله عَزَّ وجَلَّ من نفسهِ، وكأَنَّ بين جَوَانِحِهِ ألف قلب من قلوبِ الشجعانِ، حيث صارَتْ معركةُ أُحدٍ أشدَّ وقْعًا وأَثْقلَ وطْأَةً، ولاحقَتْ عبدالله الجراحُ وجعل نزيفُهُ ينْساحُ، وفي حسٍّ زكِيّ هتف بهِ النبيّ: “اعْصِبْ جرحَكَ يا بُنيَّ”.

فَعَصَبَتْهُ له أمُّهُ، والنَّبيُّ يرَاقِبُ الألم ويُعَاودُ الهُتَافُ في شجنٍ: “انْهَضْ بُنيَّ، فَضَارِب القومَ”. 

وما كانَ لِيُـنْهِضَهُ جرِيحَاً للْقتالِ لولا سلُوكهُ مسْلَكَ الرِّجالِ، وما لبثتْ أمُّ عِمَارَة أن جرِحَت لوقتِهَا فهَتف صَلَّى الله عليه وسلَّم في ولدِهَا: “أُمَّكَ أُمَّكَ اعْصِبْ جُرْحَهَا”. 

جُرِحتْ سيِّدةُ البيتِ، فهل تتخلَّى عن القتالِ تاركةً ساحتَهُ للرجالِ؟

 إنَّ الخطَرَ يَتربَّصُ بالنبيِّ، في مشْهدٍ أليمٍ وشجيٍ، فعاودَت الدِّفاعَ عنه علَى مَرْأى ومسْمَعٍ منهُ فتهَلَّلَ مَادِحَاً تِلكُم الجَسَارَة: “من يُطِيقُ مَا تُطِيقينَ يا أمَّ عِمَارَة”(2).

وهنا تُبْدِي أمُّ عِمَارَة أملَها المخْبُوء خلف البَذْلِ والاستِبْسالِ، وتُجِيدُ اغْتِنَامَ الفُرْصَةِ فتَصِيحُ صَيْحَةً ملؤُهَا الأَملُ والرَّجَاءُ: يَا رسول الله، ادعُ اللهَ أن نرَافِقَكَ في الجنَّةِ..

 فَيُسْمِعها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يملأ نفسَهَا اطمِئْنَانًا على مصِيرِهَا وأهلِهَا: “اللَّهُمَّ اجعلْهُم رُفقَائِي في الجَنَّة”(3).

فتقولُ هانِئةً مَغْبُوطَةً: ما أُبالَي ما أَصَابَنِي من الدُّنيا، مُبَرْهِنَةً على أنَّها لم تكن تعمل إلَّا لهذه الغَايةِ، ووَضعتْ أُحُدٌ أوْزَارَهَا، وعادَ عبداللَّه مع أُمِّهِ إلى يثرب مُحمَّلَين بجروحهِمَا.

وتوالت الأيامُ ومعها توالت المَشَاهِدُ، وشَهِدَ حبيب، وعبداللَّه، مع أمهما المَشاهِدَ كلَّها مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.

ومرَّتِ الأيامُ وَكرَّ الزَّمنُ، وفي العام التَّاسع الهجرِي أَسَفَرَ الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم حبيبًا برسالتهِ إلى مسيلمة الكَذَّابِ الذي وضعَ حبيبَاً في القُيُودِ وأمرَ جَلَاَّدهُ بِتقطِيعِ أعضائهِ عُضوًا عُضْوًا رجاء أن يَشْهدَ له بالرِّسالةِ، وحبيبٌ يتأبَّى على رجَائِه أشدَّ الإبَاءِ، حتى صَعدَ شَهيداً مَجِيداً مُمَيَّزاً..

وبين العام الحادي عشر والثالث عشر للهجرةِ دارت حروبُ الرِّدَّةِ، وكانت السنُونُ قد حَدَتْ(4) بأمِّ عِمَارَة إلى ما فوقَ السِّتَّين ولكنَّها انْتَفَضَتْ مع الجيش المُسَيَّر لحربِ مُسَيْلِمَةَ الكذَّاب.

والتَقَى الجَيْشَان في اليمامَةِ ودارَتْ حربٌ رهيبَة الضَّرَاوَةِ راحت تطَحْنُ المقاتِلينَ طحَنَاً ظنَّ التَّارِيخُ معه أنَّهَا لنْ تُبْقي على أحدٍ مِن الفرِيقَيْنِ.

واسْتَلَّت(5) السيِّدَةُ سَيْفاً بَتَّاراً وانطَلقتْ كمُصَارِعٍ غَلاَّبٍ تستَشْعِرُ في أوصَالِها قُوَّةً كانت لها عَهْدٌ بها قبلَ سنِّ السِّتَّين، وفي عزمٍ وثَّابٍ انطلقَ عبداللَّه خلفَ أملِ قتل الكذَّابِ، وبنَظراتٍ حادَّةٍ وبَاحثةٍ، وعزِيمَةٍ قوَيَةٍ وبَاعِثةٍ راح يهِدُّ صفُوفَ المرتدِّين هداً، وصورةُ أخيهِ وقد قطَّعَهُ الكَّذابُ تدْفعُ ذاكِرَتهُ دَفْعًا، حتى جعلَ الخبَرُ يرِنُّ فِي حديقةِ الموتِ: قُتِلَ الكذَّابُ.. قُتِلَ الكذَّابُ، رَمَاهُ وَحَشِيّ بن حَرْبٍ بحَرْبةٍ وقتلهُ عبداللَّهُ بن زيدٍ بسيفِه.

 لتَرْتَجَّ نفسُ السَّيِّدَةِ بألوَانِ الفرحِ وفنُونِه(6).

أَدْرَكَ القَتْلُ مسيلمةَ وَانْصَرَفَ بِه إِلى الجَحِيمِ، شَرٌّ انْصَرَفَ عن الدُّنْيَا ورَاحَةٌ أُهْدِيَتْ إليها، وبَيْنما اضْطَرَبَتِ الدُّنْيَا فرَحًا بِرحِيلِهِ عنها، اضطَربَتْ جهَنَّمُ فرَحًا بسَعِيِّهِ إليهَا.

ورَغْمَ إصابةِ السَّيِّدةِ بأَحَدَ عَشرَ جُرْحًا بذَاكَ اليومِ المَشْهُورِ تلألْأَ في عَيْنِيهَا دمعُ السُّرُورِ.

وها هي الأيامُ كَرَّتْ، وها هي السَّيِّدَةُ إلى مَقْعَدِهَا المَحْجُوز عِند ربِّهَا قد صَعَدَتْ.

ومضَى عبدالله وفكرةُ البَذْلِ لا تزال تُدْرِكُهُ وتَمتلئ بها مَدَارِكُهُ، وامتَدَّ به العمرُ حتى سنة ثلاثٍ وستِّين هجرِيَّةٍ، وفي المديَنةِ النَّبَوِيَّةِ وقعَتْ وقْعَةُ الحَرَّةِ التي آلمت التَّارِيخَ الإسلامي بأَحْدَاثِهَا المُرَّةِ، ورغَمَ تَجَنُّبِ عبداللَّه القِتَالَ يومذَاكَ، فإنَّهُ قُتِلَ لِتزفّهُ ملائكَةُ ربِّهِ إلى هنَاكَ، لِيُلَمَّ شَمْل أسْرة أمِّ عِمَارَةَ من جديد في الجوَارِ الهانئ السَّعِيدِ، وتغْدُو البِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ: “اللَّهُمَّ اجعلْهُم رفقَائي في الجنَّةِ”، في حيِّزِ الإِجابة الرَّبَّانِيَّةِ بعدمَا خَلَّفُوا سِيَرًا تَزْهُو بِأَوْسِمَةِ الفخَارِ، وتَزْدانُ بها سنوَاتُ التَّارِيخِ الكِثَار(7).

 

 

 

 

 

_____________________________

(1) أي: ندافع.

(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل (15/ 281).

(3) مسند الإمام أحمد بن حنبل (15/ 282)، طبقات ابن سعد (8/ 415)، البداية والنهاية (5/ 282)، سير أعلام النبلاء (2/ 282).

(4) أي: تعدَّت.

(5) أي: نزعته من غمده.

(6) فنونه: ألوانه.

(7) راجع الإصابة (4707)، وأسد الغابة (2958)، سير أعلام النبلاء (2/ 378).

Exit mobile version