شبهات وردود.. دية المرأة نصف دية الرجل.. لماذا؟!(9)

 

يخطو المرجفون خطوة أخرى مع الشيطان فيقولون: إن من أساليب اضطهاد المرأة وظلمها في التشريع الإسلامي مسألة الدية، فهي كذلك على النصف من دية الرجل فهي مظلومة حية وميتة، مظلومة حية لأنها تأخذ نصف ما يأخذه الرجل في الميراث، ومظلومة ميتة لأنها إذا قُتلت خطأ بيعت أو بيع دمها بنصف الثمن الذي يباع به دم الرجل إذا قتل كذلك خطأ(1)!

تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها

منشأ هذا الافتراء الجهل أو العناد

لا شك أن منشأ هذا الافتراء إما الجهل وإما العناد، فالجاهل يعتقد أن التفرقة في الدية مثل التفرقة في الإرث الأساس فيهما احتقار الإسلام للأنوثة من حيث هي أنوثة؟ وإكرام الذكورة من حيث هي ذكورة، ومثل هذه النظرة تحجب عن أصحابها جوهر الحقيقة وتعميهم عن الفقه الصحيح لعلل الأحكام، وإذا كان الجهل هو السبب فالخطب يسير لأن الجاهل سرعان ما يعدل عن خطئه إذا ظهر له الحق، أما العناد فلا يفيد معه شيء، وإذا رجعنا إلى دراسة هذه المسألة في مصادر التشريع الإسلامي وفي مصنفات الفقهاء نجد أن العلماء انقسموا فيها إلى مذهبين مشهورين وإن لم يكونا على درجة واحدة من الشهرة والاعتقاد، وهما على النحو التالي:

دية المرأة المسلمة الحرة نصف دية الرجل المسلم الحر

المذهب الأول: في حالة القتل الخطأ فإن دية المرأة المسلمة الحرة نصف دية الرجل المسلم الحر، وهذا هو مذهب الصحابة رضي الله عنهم، ومذهب جمهور العلماء من بعدهم.

المذهب الثاني: يرى بعض العلماء أن دية المرأة المسلمة الحرة مثل دية الرجل المسلم الحر، واستدلوا على ذلك بأثر قال فيه الجمهور إنه شاذ ويميل الشيخ محمود شلتوت إلى تساوى الديتين(2).

ولقد توصل الباحث مصطفى عيـد الصياصنة بعد بحث دقيق إلى ترجيح المذهب الثاني، فقال: “من دراستنا الموسعة والمستفيضة لمسألة دية المرأة في الكتاب والسُّنة، والآثار الواردة عن بعض أفراد الصحابة والتابعين، إضافة إلى معالجتنا لطبيعة دعوى الإجماع والقياس، بخصوص هذه المسألة، فإننا نستطيع القول، وبكل الاطمئنان والثقة: إن دية المرأة على مثل دية الرجل سواء بسواء وذلك لتضافر الأدلة والمرجحات، التي تؤكد هذه الحقيقة، وهي مجموعة أدلة ومرجحات يمكن إجمالها في الآتي:

1- أن الآية الكريمة التي أثبتت مشروعية الدية في القرآن شملت بإجماع الفقهاء والمفسرين الرجل والمرأة على حد سواء، ولم تفرق بينهما بشيء: (وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ) (النساء: 92)، ولم يثبت في السنة المطهرة حديث واحد صحيح صريح، يدل على تنصيف دية المرأة، فقد احتجوا بحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، الذي يقول: (دية المرأة على النصف من دية الرجل)(3)، وقد حكم العلماء بضعفه؛ فتبين من ذلك، أن قولهم بتنصيف دية المرأة، لا يعتمد على حديث صحيح بالمرة، وهذه كتب السنة بين أيديهم فإن وجدوا فيها حديثاً صحيحاً صريحاً – واحداً فقط – يقول بتنصيف دية المرأة رجعنا إلى قولهم، وإن لم يجدوا – ونحن متأكدون أنهم لن يجدوا – فالحق أولى أن يتبع، والدليل أجدر وأحق أن يُقتفى، وليس في الآثار الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، أثر واحد صحيح صريح، ينص على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وقد وقفنا عليها واحداً واحداً، وعالجنا أسانيدها، ولمسنا ما هي عليه من الضعف والوهي، وما قاله العلماء المحققون في توهينها والحكم بردها، فتبين لنا من ذلك كله، أن القول بتنصيف دية المرأة لا يعتمد ولو على أثر واحد صحيح منقول عن الصحابة، فكيف بعامتهم ينسب إليهم أنهم قضوا بنحو ذلك؟!

القول بتنصيف دية المرأة ادعاء لا يقوم على دليل

إن ادعاء الإجماع على تنصيف دية المرأة، إنما هو مجرد دعوى لا أكثر، إذ هو منقوض بالآتي:

– عدم وجود نقل صحيح ثابت عن حصول مثل هذا الإجماع، ومتى كان وممن كان.

– تعذر إجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين -بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفي أواخر العصر الأول- على شيء من ذلك، لكثرتهم أولاً ولتفرقهم في الأمصار المتباعدة ثانياً، ولصعوبة الاتصال بهم ثالثاً، ولقد تبين لنا أنه لم يثبت عن بعض أفراد الصحابة أنهم قالوا بذلك، فكيف يمكن إذن أن يقال باجتماعهم جميعاً عليه؟

– نقض دعوى انعقاد إجماع العلماء على تنصيف دية المرأة، بوجود المخالف، الذي يعتد بمخالفته، ويرجع إلى اجتهاده… وابن حزم ومن ورائه المدرسة الظاهرية.. فقد قال هؤلاء بمساواة دية المرأة بدية الرجل في النفس والأعضاء وأن الأحاديث الصحيحة التي وردت في الدية، إنما جاءت شاملة للرجال والنساء دون تمييز، وكذلك الأحاديث الواردة في الجراحات: “وفي النفس المؤمنة مئة من الإبل، وفي العين خمسون وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون..” (4)، فإذا كان الرجل يُقتل بالمرأة، ويُقاد بها عيناً بعين وأذناً بأذن، وسناً بسن، ويُقتص لها منه في كل الجراحات فما الذي يمنع من أن تكون ديتها كديته؟   

ومن الغريب أن النصوص صريحة في عدم قتل المسلم بالكافر، وفيها أن دية الكافر الكتابي على النصف من دية المسلم، ومع ذلك لم يأخذوا بها وقالوا بخلافها، في حين لم يثبت حديث واحد صحيح يصرح بتنصيف دية المرأة، ومع ذلك تمسكوا بهذا القول ولا دليل معه”(5).

رأي الإمام القرضاوي في هذه المسألة

وقد أكد الإمام القرضاوي ما توصل إليه هذا الباحث فقال: “وأما الدية فليس فيها حديث متفق على صحته، ولا إجماع مستيقن.. وإذا لم يصح حديث في القضية يُحتج به، فكذلك لم يثبت فيها إجماع.. بل ذهب ابن علية والأصم -من فقهاء السلف- إلى التسوية بين الرجل والمرأة في الدية، وهو الذي يتفق مع عموم النصوص القرآنية والنبوية الصحيحة وإطلاقها، ولو ذهب إلى ذلك ذاهب اليوم، ما كان عليه من حرج.. وهو ما ذهب إليه شيخنا الشيخ محمود شلتوت في كتابه “الإسلام عقيدة وشريعة” حيث قال تحت عنوان “دية الرجل والمرأة سواء”: “وإذا كانت إنسانية المرأة من إنسانية الرجل، ودمها من دمه، والرجل من المرأة والمرأة من الرجل، وكان “القصاص” هو الحُكم بينهما في الاعتداء على النفس، وكانت جهنم والخلود فيها، وغضب الله ولعنته، هو الجزاء الأخروي في قتل الرجل، فإن الآية في قتل المرأة خطأ، هي الآية في قتل الرجل خطأ، ونحن ما دمنا نستقي الأحكام أولاً من القرآن، فعبارة القرآن في الدية عامة مطلقة لم تخص الرجل بشيء منها عن المرأة: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا) (النساء: 92)، وهو واضح في أنه لا فرق في وجوب الدية بالقتل الخطأ بين الذكر والأنثى.

الحكمة في هذه التفرقة

وإذا ثبت أن المعتمد في دية الحرة المسلمة إذا قُتلت خطأ أنها تكون نصف دية المسلم الحر فليست هذه التفرقة لتفضيل الذكورة على الأنوثة كما يشيع المرجفون بل لحكمة يُقدرها الشارع حق قدرها وهي أن الدية نوع من التعويضات، والتعويضات يكون الأساس العادل في تقديرها هو حجم الضرر الواقع على الغير، والضرر الذي يصيب الأسرة بقتل عائلها وهو الرجل غير الضرر الذي يصيبها إذا كان المجني عليه هو المرأة (الأم) أو غيرها.

فعند قتل الأم خطأ لا تضار الأسرة في مصادر رزقها وكل ما في الأمر هو فقدان مشاعر الأمومة وخدمتها ورعايتها للأبناء أما مصدر رزقها فقائم لم يمس، وإذا كان المجني عليه هو “الأب” أصيبت الأسرة بضرر بالغ في مصدر رزقها وتعرضت للفاقة والحرمان وتدبير أمور المعاش لذلك كان مقدار دية المرأة هو النصف من دية الرجل.  

فالإسلام، إذن، لا يفرق بين الرجل والمرأة في مثل هذه الأحوال لأن إنسانية الرجل أعلى قدرا ًمن إنسانية المرأة، بل كل منهما في أصل الإنسانية سواء لا فرق بين هذا وتلك.

هذا في القتل الخطأ أما إذا كان القتل عمداً عدواناً فقتل القاتل واجب قصاصاً عادلاً لا فرق بين أن يكون المقتول ذكراً أو أنثى ما لم يعف أولياء الدم عن القاتل عفواً مطلقاً أو مع أخذ الدية بدلاً من القصاص عند من يجيزه من الأئمة، ولو كان الإسلام يُفرق بين الرجل والمرأة من حيث الرجولة المجردة عن أي اعتبار، ومن حيث الأنوثة المجردة عن أي اعتبار، لكانت تللك التفرقة ملازمة لهما في جميع الأحوال وهذا ما لا وجود له في التشريع الإسلامي القائم على العدل والحكمة والرحمة، ولكن المرجفين لا يكادون يفقهون حديثاً أو هم كما قال رب العزة: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) (النحل: 82).  

 

 

 

 

___________________________________

(1) انظر: “المرأة في عصر الرسالة بين واقعية الإسلام وأوهام المرجفين” – المؤلف: د. عبد العظيم المطعني – 1/ 149.

(2) “المرأة في عصر الرسالة بين واقعية الإسلام وأوهام المرجفين” – المؤلف: د. عبد العظيم المطعني – 1/ 150.

(3) المصدر: إرواء الغليل – الصفحة أو الرقم: 2250 | خلاصة حكم المحدث: ضعيف

(4) صحيح: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب العقول، باب ذكر العقول، (3139)، والنسائي في المجتبى، كتاب القسامة، ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له (4857)، وصححه الألباني في الإرواء (2248).

(5) انظر كتاب: “دية المرأة، في ضوء الكتاب والسنة (تمام) دية المرأة، وتهافت دعوى التنصيف” – مصطفى عيـد الصياصنة – 1/145.

Exit mobile version