تَذَاكُرُنا.. أُسُسٌ في مجالس الخير

 

لا تكاد مجالس الناس اليوم تخلو من تذاكر وذكريات تسرد من هنا وهناك، قد تكون من فعال الحاضرين وأقوالهم، وقد تكون من غيرهم، لكنهم يجعلونها محور حديثهم، وتسلية اجتماعهم، ونحن لا ننكر على الناس مجالسهم، بل لا غنى للناس عنها؛ إذ هي متنفسهم لاستكمال مسيرهم، ومظهر من مظاهر راحتهم بعد نصَبهم، وقد راجع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لما نهاهم في أول الأمر عن ترك المجالس العامة في الطرقات، التي لا طائل من ورائها، ولا نفع يقدم من خلالها، فعند البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: «إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ»، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ»، ومع هذا فلم تعد تلك المجالس بهذه الضوابط كما كانت من قبل، أو أنها تحولت الآن إلى مجالس لا حضور فيها لملك، ولا ذكر فيها لخير، ولا استحضار فيها لنعمة، فأصبحت عبئاً ووزراً، ونأى عن مزاحمتها أصحاب المروءات والمبادئ، ناجين بأنفسهم عن مقارع هؤلاء الجالسين وسلوكهم.

إن مجالس الخير تعددت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتنوعت قضاياها، ولم تخلُ من فائدة وتشريع، أو إجابة وبيان، أو ترغيب واطمئنان.. أو غير ذلك مما لا يعد ولا يحصى من الخير العميم، والارتقاء المتوالي، ولنقف على أحد هذه المجالس التي جلَّت لنا جواً خاصاً ينبغي أن ترجع معه مجالسنا، أو نرجعه لأنفسنا حينما نجلس مع بعضنا، روى أحمد عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا الْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: “أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثًا”، وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ: ذُكِرَتِ الْجَنَابَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “أَمَّا أَنَا فَآخُذُ بِكَفِّي ثَلَاثًا، فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي” (صحيح)، ولنقف على هذه الأجواء في النقاط التالية:

– فقه اختيار المجلس؛ فليس كل مجلس تُدعى إليه تجيب، فربما مجلس لم يورث صاحبه ولا جلسائه إلا ضياعًا لوقته، أو اكتسابًا لوزر، أو تحملاً لتبعة في غير نفع، وعلى الجهة المقابلة؛ فإن هناك مجالس أخرى يتسابق إليها القلب قبل الأركان متعلق بها، يفرغ المسلم شواغل حياته في نيلها، فيجمع نفسه، ويذهب لها مختاراً لبقعته المكانية، ومحضّراً الأركان لاستقبال جمالها، وهذه كانت زفرات حنظلة لأبي بكر رضي الله عنه ولرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا” (صحيح).

– إحياء التذاكر النافع؛ نعم فالتذاكر قد يكون علماً يورث، وقد يكون تاريخاً يقص ويسرد، وقد يكون حكاية فعل أو قول مضى جسده وما زال مطلاً بديمومة أثره، والنفس السوية الذكية تتطلع إلى جميع ذلك تحصيلاً لعلم، أو اكتساباً لتجربة، أو وضوحاً لرؤية، من خلال الخبرات الحاضرة والسابقة، فهو تذاكُر مفيد من جوانب متعددة، لا يعدم فيه الإنسان الفائدة، فهو على مداره وبعده غانم غير غارم.

– الالتفاف حول عنوان اللقاء: من أسس المجالس الخيرية هو التأكيد على موضوع اللقاء؛ أمر يشغل بال الفرد أو المجتمع قدمته الحاجة والضرورة والواقعية لتصدر المجالس، ولطرح الأفكار والرؤى حوله، فوجب الاجتماع والإدلاء بمعين المتحاورين فيه، وشتان بين لقاء يعقد لا يعرف على أي شيء جمع الناس عليه أو لماذا يجلسون، ولقاء مهد له وعرف سببه، وقدمت فيه وجبة عظيمة من المعلومات والثقافات التي تهذب نفسه وتسمو بروحه وترجح عقله، ولعل هذا الأمر أصبح معاصراً حينما تعقد المؤتمرات، والمجالس، والصالونات الثقافية والعلمية، على فكرة مسبقة يدعى إليها من يعرف بها، ويقدم وينشر الخير في سبيل تحقيقها. 

وفي حديثنا النبوي من فقه التذاكُر سمات عالية وغالية، وهي كما يلي:

– فمنها انشغال الناس بعبادتهم، وكيفية أدائها، وهو أمر يصحح المفاهيم، ويطمئن القيادة على المسير، ويصوب الأخطاء، ويدفع الإنكار المجتمعي والفردي.

– ومنها إبراز أهمية المجتمع المتعلم؛ الذي يبحث عن مزيد علم يدفعه إلى مزيد عمل أو تصويب سلوك، تذاكر يبين بجلاء فوارق المجالس التي يوصل مجموعها يوماً ما إلى ميلاد عالم وفقيه ومتخصص، ولعل هذا أصبح ثمرة من خلال هذا الحديث وغيره في إيجاد طريقة من الطرق المعتمدة في تحصيل العلوم وتنقيح الفهوم.

– ومنها فتح المجال للجميع لبيان كيفية فعله وعمله وأدائه، وهو دليل أجواء الحرية التي كانت في زمن النبوة، ومجالس الأخوة الأولى بين يدي المعلم الأول صلى الله عليه وسلم.

– ومنها بيان الجمال لهذا الدين الذي يستوعب الجميع، ويؤكد صحة الأداء للأعمال والواجبات بعدة طرق، فليس الهدف من التذاكُر بيان رأي واحد في المسألة، بل عرض الآراء والأطروحات إما للانتقاء منها أو لتأكيد جواز إتيانها جميعاً بطرق متعددة، تأكيداً على مراعاة الإسلام لأبنائه وشموله لكثير من المستظلين بمظلته وفي سُنة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الشيء الكثير.

– ومنها الاحترام المتبادل الذي يستشف من التذاكُر المطروح، فلا اعتراض ولا مقاطعة ولا تهوين ولا تسفيه لأحد من فعله، حتى ولو كان مخطئاً، بل الأصل السماع التام، والإنصات الشامل بجميع الأركان، والانتظار لبيان الفكرة من المتحدث، وسكوته عن البيان، ثم تأتي المناقشات وإتاحة الفرصة للآخرين.

– ومنها بيان طريقة التذاكر؛ فالأصل أن يسمع الأعلى من الأدنى فيها؛ ليقف على أمور تغيب لو بادر هو بالكلام، أو تعجل الإرشاد والإعلام، فالطرح إذا خرج من القاعدة الجماهيرية أوقف المعلم والقائد على جملة من المعلومات والتوضيحات تجعله أوقع في قوله، وأكثر تركيزاً في بيانه وطرحه، ولا ننسى أن نؤكد في المثال النبوي في بيان فعله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ما يدل على عدة معانٍ مهمة، منها: “المشاركة الحديثية، التواضع الجم، الإنصات الكامل، بيان الاختيار الشخصي، عدم الإلزام والحمل في غير موضعه، جمالية العرض لجميل الاقتداء”.

وفي النهاية، أقول: إن التذاكر سُنة نبوية وسمة من مجالس الصالحين لا يعرف جمالها إلا من ذاق مدامها وجنى ثمرتها ليتها تعود إلى مجالسنا التي لن تخلو معها من فوائد وروائع وروحانيات، أحبتي اعقدوا مجالسكم على هذا المعنى، تذاكَروا تغنموا.

Exit mobile version