تجديد النظر في الدراسات القرآنية والتعامل مع القرآن «المدخل المعرفي» (4)

يعد هذا المدخل الغاية الرئيسة من هذه الحلقات التي نقوم فيها على تقصي الكتابات الرائدة التي تسعى إلى بناء نموذج/منظور معرفي حضاري من القرآن الكريم بما يوفر مرجعية معرفية للدراسات الاجتماعية في الواقع الإسلامي والإنساني المعاصر، تتمتع بالثبات والمرونة والمعيارية والإصلاحية والتوازن في النظر إلى الظواهر الاجتماعية وفي المركز منها الإنسان.

إن تجديد النظر في الدراسات القرآنية فيما يتعلق بالمدخل المعرفي يعني توظيف القدرات العلمية والثقافية التحليلية في إعادة اكتشاف الأسس القرآنية لدرس الظواهر الاجتماعية وتقديم الحلول الملائمة/المعيارية والإصلاحية لها في ضوء منهجية عمل تقوم على التفسير المتوازن، والتنبؤ الراشد، والتحكم الذي يفضي إلى الإصلاح والفلاح، وهذا يتطلب بطبعه أو بصورة مبدئية نقد النموذج/المنظور المعرفي القائم الذي فشل في حل إشكالات الظاهرة الاجتماعية، بل أسهم في تفاقم مشكلاتها بشكل أساس، أو قدم لها حلولًا أسهمت في تجذير كثير من الإشكالات التي تعاني منها الظواهر الاجتماعية المعاصرة.

يقوم المدخل المعرفي على مبدئية مفادها أن القرآن يمتلك القدرة التي تمكن من اكتشاف الأسس والأصول المعرفية لبناء منظور معرفي قادر على تقديم تفسيرات ملائمة للظاهرة الاجتماعية، وكذلك قادر على تقديم حلول إصلاحية واقعية لإشكالات هذه الظواهر المعاصرة، تجنب الإنسان ويلات وخسائر النموذج المعرفي القائم، وتوفر له نظاماً للقيم يراعي الفطرة والمصلحة الإنسانية، ومع استعراضنا أكثر للنماذج الرائدة في هذا المدخل يمكن أن نتعرف بصور تحليلية على أغراض/مقاصد هذا المدخل ومفرداته ومنطلقاته.

النظرية القرآنية في الأخلاق: محمد عبدالله دراز

من النماذج الرائدة في النظر المعرفي للقرآن الكريم، ما قدمه محمد عبدالله دراز (1894 – 1958) عند البحث في النظرية الأخلاقية القرآنية، وجاء ذلك عبر دراسة علمية حصل بها على درجة الدكتوراة في جامعة باريس (1947)، وتتضمن الدراسة رسالتين لهذا الموضوع؛ الأولى: مقدمة عامة حول القرآن الكريم والموقف المعرفي منه، بالإضافة إلى التعريف به، ومناقشة بعض القضايا الاستشراقية التي تطعن في أصالته المعرفية (المتأصلة) من كونه وحيًا إلهيًا خالصًا، وعنونت الرسالة الأولى بـ«مدخل إلى القرآن الكريم» (1947) قام على ترجمتها إلى اللغة العربية السيد محمد البدوي عام 1971، والرسالة الثانية عنونت بـ«دستور الأخلاق في القرآن.. دراسة مقارنة»، وهذه الرسالة استخلص فيها الأسس المعرفية للنظرية الأخلاقية القرآنية.

منطلقات/مبادئ

تنطلق منهجية المدخل المعرفي للبحث في النظرية الأخلاقية القرآنية من مبدئية أن القرآن مكنز للأفكار اللازمة لبناء نظرية أخلاقية متمايزة عن النظريات الوضعية القائمة، التي انفطرت في النفعية المادية، أو العقلية المثالية، وهذا يتطلب جهداً بحثياً في القرآن يتسم بالموضوعية والعدالة، كما يتطلب المقارنة مع المفاهيم القائمة للنظريات الأخلاقية الوضعية، حتى نتمكن من بناء نموذج/نظرية أخلاقية تقوم على أرض صلبة من المعرفة والحقيقة.

إن القرآن الكريم يمتلك هذه القدرة التي تجعله صامدًا وصادعًا بالحقيقة القرآنية التي تمكن من تشييد النظرية الأخلاقية القائمة الفطرة والواقعية والإصلاحية، وذلك يرجع إلى طبيعة دعوته، التي تتضمن مجموعة الحلول التي يقدمها للمشكلتين الأساسيتين الخالدتين، وهما: مشكلة المعرفة، ومشكلة السلوك، والبراهين والأدلة اللازمة للإقناع المعرفي لصدق هذه الدعوة(1).  

في ضوء هذه القناعة المنهجية، فإنه يمكن استخلاص قانون أخلاقي قرآني بشكل مستقل، من خلال البحث في القرآن عن هذه الخلية الحية كوحدة مستقلة، وذلك بالبحث المباشر في القرآن الذي يتجاوز الأحكام والتفسيرات والتطبيقات التاريخية التي اُختلف فيها، بشرط أن تكون الدراسة موضوعية للقرآن بقدر ما يستطيع أي مفكر أن يتجرد من ظروفه الذاتية الخاصة(2).

المدافعة الحضارية بالمنظور القرآني:

هكذا تفيدنا الفكرة المطروحة في المشروع الأخلاقي لدراز، أن المدافعة الحضارية تأخذ صورًا شتى في مقدمتها معرفيًا، المدافعة الحضارية بتشييد المنظور المعرفي القرآني في المجال الأخلاقي، وهذا أبرز ما يمكن أن يقدمه باحث مسلم في الأخلاق وفي القرآن.

إن استخلاص فكرة القرآن من غلافها وإخراجها بهذه المنهجية إلى العقل الإنساني -غير العربي وغير المسلم- ما هو إلا تحقيق لجزء من رسالته الحقيقية؛ لأن القرآن يقصد الإنسان حيث يكون وإلى أي جنس ينتمي.. وذلك حسن يوجه نداءه إلى العقل والذوق السليم والشعور الإنساني النبيل، إنه دعوة عالمية بهدف تطهير العادات وتوضيح العقائد والتقريب بينها وإسقاط الحواجز العنصرية والوطنية، وإحلال قانون الحق والعدل محل قانون القوة الغاشمة، هذا بالإضافة إلى الإسهام في المجهود الفلسفي العالمي في زحمة التسابق الضاري من أجل السيطرة ومن أجل القوة المدمرة التي تفسد عصرنا الحاضر(3).

مدخل إلى القرآن الكريم

تضمنت الرسالة الأولى «مدخل إلى القرآن الكريم» وعيًا تاريخيًا ومعرفيًا بالقرآن الكريم، وهو في ذلك مخاطبًا الحضارة الغربية ومستشرقيها، الذين تعاملوا مع القرآن بصور شتى، أبعدت أغلبهم عن حقيقته، وحقيقة مصدره، ومن ثم عنيت هذه الرسالة بتفنيد كثير من مزاعم المستشرقين حول مصدرية القرآن، وحول بعض القضايا المتعلقة بها مثل طريقة نزوله وجمعه وترتيبه.

كما تضمنت هذه الرسالة مقدمة في الموقف الأخلاقي للقرآن الكريم، وأشارت الدراسة إلى أن القرآن قام بوظيفتين ناحية الجانب الأخلاقي الديني والإنساني، الأولى: حفظ التراث الأخلاقي الذي نزلت به الكتب السماوية السابقة، والوظيفة الثانية: إتمام وإنهاء الصرح الأخلاقي الذي بناه الرسل والأنبياء السابقون على مر العصور، وهو مصداق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

لقد قدم القرآن الكريم –في بناء النظرية الأخلاقية- خارطة للأخلاق، نتبين مواقعها في الأماكن التالية:

– الفضائل الشخصية.

– الفضائل في العلاقات بين الأفراد.

– الفضائل الجماعية والفضائل العامة.

– الفضيلة في المعاملات الدولية وبين الأديان.

___________________________________

(1) مدخل إلى القرآن الكريم، ص 13.

(2) المرجع السابق، ص14.

(3) المرجع السابق، ص15.

Exit mobile version