في رواية “الكرنك” لنجيب محفوظ: “وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ” (3-3)

 

لخص خالد صفوان، رجل المخابرات القوي، في هذه الكلمات المنثورة حال الثوار الذين قادوا البلاد إلى الهزيمة والعار والخراب:

“براءة في القرية.

وطنية في المدينة.

ثورة في الظلام.

كرسي يشعّ قوة غير محدودة.

عين سحرية تعري الحقائق.

عضو حي يموت.

جرثومة كامنة تدب فيها الحياة” (ص101).

طوائف المجتمع

ثم قسم خالد صفوان طوائف المجتمع السياسية عقب الهزيمة المذلة بحكم خبرته المخابراتية، فقال: “يوجد في وطننا دينيون، هؤلاء يهمهم قبل كل شيء أن يسيطر الدين على الحياة؛ فلسفة وسياسة وأخلاقاً واقتصاداً، وهم يرفضون التسليم للعدو ويأبون المفاوضة معه ولا يرضون عن الحل السلمي.. وقد يقبلون السلاح الروسي وهم يلعنون الروس.. ولعلهم يفضلون حلاً سلمياً مشرفاً يتحقق بتدخل أمريكا وينهي علاقتنا بروسيا الشيوعية نهائياً.

ويوجد يمينيون من نوع خاص، يتمنون التحالف مع أمريكا وقطع العلاقات مع روسيا، ويرضون بحل سلمي مع تنازلات لا بد منها، ثم يحلمون بالتخلص من النظام الحالي، والعودة إلى الديمقراطية والاقتصاد الحر.

ويوجد شيوعيون -الاشتراكية فصيلة منهم- يهمهم قبل كل شيء الأيديولوجية وتوثيق العلاقات مع روسيا، ويرون أن خير الوطن لن يتحقق إلا من خلال الأيديولوجية ولو طال الانتظار” (ص 103).

فلسفة الجلاد

وبعد أن نجح في لفت الأنظار إليه داخل المقهى، طرح فلسفته التي تعلمها في أعماق الجحيم، وأعلنها في الكرنك حيث يلتقي التقي والجريمة، وما سماه المبادئ التي خرج بها من حياته الماضية، ولن يحيد عنها ما عاش، وهي:

أولاً: الكفر بالاستبداد والدكتاتورية.

ثانياً: الكفر بالعنف الدموي.

ثالثاً: يجب أن يطرد التقدم معتمداً على قيم الحرية والرأي العام واحترام الإنسان، وهي كفيلة بتحقيقه.

رابعاً: العلم والمنهج العلمي هو ما يجب أن نتقبله من الحضارة الغربية دون مناقشة، أما ما عدا هذا فلا نسلم به إلا من خلال مناقشة الواقع، متحررين من أي قيد قديم أو حديث.. (ص105).

الحوار الدال

وتعتمد الرواية على الحوار بنوعيه (الخارجي والداخلي) بصورة أساسية، ويكشف طبيعة الشخصيات والأحداث، ويذكّر بالماضي ويعبر عن المستقبل كما تتصوره الشخصيات، أو يتصوره الراوي، وسوف نكتفي ببعض الأمثلة الدالة:

تتساءل قرنفلة عن تأثيرها في مجال الفن أيام كانت تمارسه، وهو شغف مستمر لمن يعشقون الشهرة والدعاية ولو كانت على حساب أشياء أخرى، وتقول للراوي:

– هل سمعت أو قرأت أحداً ينوه عن ذلك؟

فقلت بارتباك:

– تصاب الأمم أحياناً بفقدان الذاكرة، ولكن ذلك لا يدوم إلى الأبد. (ص6).

ويوماً تحدث طه الغريب عن حملات الأمن ضد المعارضين، فقال:

– سمعت عن أنباء اعتقالات واسعة.

فوجمنا جميعاً، وقلت:

– ولكن أغلبيتهم تنتمي للثورة..

فقال رشاد مجدي:

– ولكن توجد أقلية مخالفة لا يستهان بها.

فقال محمد بهجت:

– وضح الحق، لقد أرادوا اعتقال المتهمين فساقوا أصدقاءهم معهم حتى يتم التحقيق.. (ص18).

لا يوجد قانون

وجرى الحديث تعليقاً على الحديث:

– الاعتقال فعل مخيف حقاً.

– شائعات يقشعرّ منها البدن.

– لا تحقيق ولا دفاع.

– لا يوجد قانون أصلاً.

– يقولون: إننا نعيش ثورة يستوجب مسارها تلك الاستثناءات.

– وإنه لا بد من التضحية بالحرية والقانون ولو إلى حين.

– ولكن مضى على الثورة ثلاثة عشر عاماً أو يزيد، فآن لها أن تستقر على نظام ثابت. (ص18 وما بعدها).

بعد الإفراج الأول عن الشبان المعتقلين، ورغم المرح والأحاديث انتشر الحذر في الجو مثل رائحة غريبة مجهولة المصدر، وتحملت كل نكتة بأكثر من معنى وكل إشارة أكثر من مغزى، وكل نظرة التبست فيها البراءة بالتوجس، وقالت قرنفلة:

– الأولاد عانوا كثيراً.

إنه لا يتكلم.

فسألتها بلهفة:

– هل قال لك شيئاً؟

– إنه لا يتكلم وفي ذلك ما يكفي.

– أجل في ذلك ما يكفي، نحن في زمن القوى المجهولة، وجواسيس الهواء، وأشباح النهار، وجعلت أتخيل وأتذكر ملاعب الرومان ومحاكم التفتيش وجنون الأباطرة، تذكرت سير المجرمين وملاحم العذاب وبراكين القلوب السود ومعارك الغابات..

– قلت لنفسي مستعيذاً من ذكرياتي: إن الدناصير استأثرت بالأرض ملايين السنين، ثم هلكت في ساعة من الزمان في صراع الوجود والعدم، فلم يبق منها إلا هيكل أو هيكلان.  (ص21-22).

– ممكن أن يشك في أمرك رجال الثورة العرابية لا هذه الثورة! (ص26).

وتعلق قرنفلة على الاعتقالات والمعتقلين:

– منذ ملكت هذا المقهى وأنا دائبة على العناية به، الأرض والجدران والأثاث تنال حظها كاملاً من اهتمامي الكلي، أما هم فينكلون بفلذات الأكباد، عليهم اللعنة (ص34).

صوت معارضة حر 

أما حوار الشيوخ فيعود إلى الماضي ويكشف:

– لم نصل إلى مثل هذه الحال في أي عهد من العهود.

– حسبنا ما كنا نستظل به من حماية القانون.

– وحتى أعنف أيام الاستبداد لم تخل من صوت معارضة حر. (ص41).

المونولوج (الحوار الداخلي)

يقول الراوي في محاولة لتسويغ إجراءات القمع، متحدثاً عن التضحيات الضرورية التي لا بد منها، ومتهماً السلطان العادل صلاح الأيوبي بالظلم، وهو ترديد لما كانت تعلنه أجهزة الدعاية الحكومية في ذلك الزمان:

“قلت لنفسي: حقاً أن حياتنا تزخر بالآلام والسلبيات لكنها في جملتها ليست إلا النفايات الضرورية التي يلفظها ذلك البناء الضخم في شموخه، وأنها يجب ألا تعمينا عن العظمة في تولدها وامتدادها.. هل عرفنا ما كان يعانيه سكان الحارة في القاهرة عندما كان صلاح الدين يحقق انتصاره الحاسم على الصليبيين؟ وهل تصورنا عصر النبوة في حياته اليومية والدعوة الجديدة تفرق بين الأب وابنه والأخ وأخيه والأخ وأخته، بالمثل ألا يستحق إنشاء دولتنا العلمية الاشتراكية الصناعية التي تملك أكبر قوة في الشرق الأوسط.. ألا تستحق أن نتحمل في سبيلها تلك الآلام؟! (ص19 وما بعدها).

دانية الشيخوخة

لدى نجيب محفوظ ولع بالصور الجزئية والكلية، وهي ميزة من ميزاته الأسلوبية في الكتابة بصفة عامة، ومنها تصويره لقرنفلة في شبابها: “حلم الأربعينات الوردي”، وبعد أن غادرها الشباب: “امرأة دانية الشيخوخة”، “كانت نجمة وكنت أحد المعاصرين (ص3)، “وقعدت قرنفلة على كرسي الإدارة كتمثال فاقد الحياة”، (ص28)، وعن الرعب من المخبرين والمرشدين: “وشككنا في كل شيء حتى الجدران والموائد..”، “وعجبت لحال وطني.. ما بال الإنسان فيه قد تضاءل وتهافت حتى صار في تفاهة بعوضة، ما باله يمضي بلا حقوق ولا كرامة ولا حماية، ما باله ينهكه الجبن والنفاق والخواء..” (ص28).

أعنف مطرقة

ويصور الهزيمة المذلة عام 1967م: “ولبثنا متلهفين حتى استيقظنا على أعنف مطرقة صكت رؤوسنا الثملة بنشوات العظمة.. وأحرق الحزن قلوب الشعب البريء.. (ص38)، “ونخوض ظلمات فوقها ظلمات تحتها ظلمات” (ص40)، متأثراً بالآية الكريمة: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) (النور: 40).

Exit mobile version