رؤية ورواية الطفل الفلسطيني للنكبة في فيلم “فرحة”

 

كسرت الفتاة الفلسطينية فرحة طبقاً فخارياً لتأخذ منه قطعة يمكن أن تمر من كوّة في الحائط كي تجمع فيها بعض قطرات المطر الذي يهطل في الخارج، كان العطش قد استبدّ بها وهي حبيسة غرفة في قرية إبان أحداث النكبة عام 1948، بعد أن أخفاها أبوها خوفاً عليها من الأذى، انتظرت أباها يوماً بعد آخر لكنه لم يأت، وكلما أرهفت السمع لما يدور بالخارج يصدمها حجم الرعب والدمار والقتل الذي يواكب حركة العصابات الصهيونية والجنود البريطانيين الذين يعيثون فساداً في أرض البلاد، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من الدخول إلى مخبئها في فيلم “فرحة” الفلسطيني الذي يعرض حالياً على شبكة “نتفليكس”، من إخراج دارين سلام، وإنتاج عام 2021، الذي أحدث ضجيجاً سياسياً لم يهدأ حتى الآن.

ينتمي الفيلم إلى نوعية من الأفلام تسمى أفلام المكان الواحد، وهي أفلام تدور أحداثها في نطاق مكاني محدد؛ إذ لا تنتقل الكاميرا بين موقع وأماكن عديدة، وهنا يكون العبء الأكبر على الممثل لإظهار موهبته في التمثيل وتجسيد القصة، وغالباً ما يكون المكان والموقع مشاركاً مباشراً في الفيلم كجزء من الحكاية.

وفي فيلم “فرحة”، كان البطل الثاني بعد الفتاة فرحة هو البيت الفلسطيني التقليدي، وهي شجاعة من مخرجة الفيلم أن تتخلى طواعية عن كل تفاصيل مشاهد النكبة التاريخية المترعة بالحركة والإثارة لتحصر القصة داخل البيت الفلسطيني من دون شريك، وفي هذا الفضاء المنزلي الهادئ يحدث كل شيء: الحياة، لعب الأطفال، زيارات الأهل والأصدقاء، طلبات المقاومة، وأخيراً مشاهد القتل والدمار التي أتت نشازاً يعكر صفو لحن الحياة الجميل.

لقد استطاعت المخرجة أن توظف كل عناصر البيت الفلسطيني التقليدي لتقدم القصة العامة أو بالأحرى رؤيتها الإخراجية العامة والفلسفية الخاصة بها في الفيلم، فلا توجد لقطة واحدة من دون رسالة ورمزية وحكايات مخفية؛ وذلك لأن الفيلم شديد البساطة وشديد التعقيد والرمزية في آن واحد، يكفي أن نعرف مثلاً أن نصف مدة الفيلم تقريباً من دون حوار، وهنا الكاميرا هي التي تتحدث في لغة بصرية غاية في الجمال والتعبير، ويمكن تأويل كثير من المشاهد والرموز بعشرات المعاني.

فأن تراقب الفتاه الصغيرة أحداث القتل والتهجير من غرفتها الصغيرة عبر شقوق صغيرة في الباب أو كوة صغيرة في الحائط يشبه حال معظم العرب الذين كانوا وما زالوا يراقبون ما يحدث من انتهاكات في فلسطين ويدهم مغلولة عن نصرتها، وإن شئت فيمكن أن تعدّ الفتاة الصغيرة تجسيداً لغزة المحاصرة المحكوم عليها بالإغلاق بشكل يمنعها من مقومات الحياة وهي تراقب العالم من حولها ولا تستطيع الخروج.

كان لافتاً أيضاً أن نرى رواية النكبة بعيون الطفل الفلسطيني الذي لا يعرف من عالمه سوى فضاء البيت والقرية والحلم بحياة المدينة والسفر إليها للدراسة، وإن كنت أتصور أن قصة شغف الفتاة بالتعليم كانت مقحمة نوعاً ما في السرد القصصي؛ لإرسال رسالة مضادة لدعاية الصهيونية قبل النكبة وبعدها، إذ لم تر في فلسطين سوى أرض قاحلة يسكنها بعض البدو وقد أتاها الصهاينة الأوروبيون بالحضارة من دون الاعتبار للحياة المدنية الحديثة التي كانت تضاهي وربما تفوق كثيراً من المدن والعواصم العربية حينذاك، وربما كانت رسالة رمزية أيضاً لمكانة التعليم في حياة الفلسطيني، وكيف أصبح بعد النكبة سلاحه في الداخل وفي الشتات لمواجهة صعوبات التغريب ومراره، وأتصور لو كان حلم الفتاة قد ارتبط بشيء آخر من داخل البيئة المكانية المنزلية لكان أدعى للتناسق الروائي للقصة.

أفلام الطفل الفلسطيني

لا نبالغ إذا قلنا: إن فيلم “فرحة” الفلسطيني يسير على نهج قصة غسان كنفاني المصورة “القنديل الصغير” التي رسمها وكتبها ليحكي بها قصة الوجع الفلسطيني لفتاته الصغيرة المدللة لميس ابنة أخته، وهنا نجد أن “فرحة” بوصفه عملاً فنياً يضاهي العمل الأدبي في جماليات العرض من دون الإغراق في الواقع وتعقيداته التي تستعصي على فهم الأطفال وإدراكهم، والفارق أن فيلم “فرحة” كان بلسان الأطفال، أما كتاب “القنديل الصغير” فكان رسالة إلى الأطفال، وكنت أتمنى لو تم التخفيف من مشاهد العنف قليلاً في فيلم “فرحة” ليكون متاحاً للأطفال كي يشاهدوه لأن تصنيفه الحالي لمن هم فوق الـ15 من العمر.

إن إنتاج الأفلام المتعلقة بفلسطين والأطفال على مستوى الوثائقي أو الدرامي أو حتى الرسوم المتحركة يدور في فلك إما الرصد والمتابعة للطفل كأحد أوجه المعاناة، أو التعليم والتوجيه من أجل إيصال معاني القضية للأطفال، ولكن لا توجد أفلام بقدر كاف تستقصي رواية أطفال فلسطين أنفسهم لما يدور حولهم سواء قبل النكبة أو بعدها.

فرؤية الطفل بشكل عام لما يدور حوله ليست بالضرورة سطحية وقاصرة، فهي في أحيان كثيرة عميقة ومعبرة، وقد درسنا في فنون الإخراج أن المبدع لا بد من أن يمتلك عين الطفل ونفسيته وهو ينظر مثلاً إلى زوايا التصوير لأخذ لقطات متناهية الصغر أو حين يمعن النظر في قصة هامشية ليحكي من خلالها قضية أكبر.

ونحن هنا نتحدث عن نوعين من الرسائل لنوعين من الأطفال؛ رسائل تمثل رواية ما يحدث من وجهة نظر الطفل، ورسائل تحمل رؤية الطفل وتقييمه لما يدور حوله، والنوع الأول من الأطفال هم أطفال فلسطين بشكل أساسي الذين يواجهون تفاصيل يومية لا تنتهي من معاناة على مختلف الأصعدة، ولم نسمع رؤيتهم أو روايتهم لما يحدث مهما كان رأينا فيما يقولونه كما شاهدنا في فيلم “فرحة” بعيداً عن أي إملاءات أو اجتزاء، والنوع الثاني هم أطفال العرب والعالم الذين لا يعيشون هذا الواقع، ولكنهم يشاهدونه عبر وسائل الإعلام ولديهم مشاعر تجاهه، ولكن لم تصلنا تعبيرات فنية كافية عن هذه المشاعر.

 

 

 

 

________________

(*) المصدر: “الجزيرة.نت”.

Exit mobile version