نحو تأصيلٍ للحفاظ على الملكية الفكرية

 

“حقوق الطبع محفوظة”.. يعاني المجتمع الفكري والبحثي من كثرة وجود هذه الجملة التي يصدرها الباحثون والمفكرون والناشرون في مؤلفاتهم وكتبهم، ولعل هذه الكلمة أصبحت ملحة في تصدير الأعمال في زمن كثرت فيه السرقات الكاملة والجزئية للأعمال البحثية والإبداعية بشكل كبير.

إن الإسلام يعلمنا احترام السبق وإفساح المجال للأول، ويؤطر في نصوصه المتواترة الحفاظ على الملكية الفردية والعامة، فأنت ترى أنه قد حفظ وضمن حق المسلم في مجلسه ليس له في هذا إلا الجلوس والمسارعة؛ فعند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ»، فكيف بمن كان سبَّاقاً في علم، مبدعاً في فكرة، مجتهداً في تحصيل، مُجْهَداً في سهر وتعب، كيف يتجرأ الآخر عليه في سلب موضعه وموضوعه فيما وصل إليه وأبدع فيه؟!

لقد علَّمنا الإسلام احترام كافة حقوق الآخر؛ مادية كانت أم فكرية، في جملة عظيمة من النصوص الشرعية التي وردت في أبواب متعددة في المعاملات والأخلاق، ولنقف على هذا الحديث الذي يوضح بجلاء هذه القضية:  

فقد أخرج أحمد عن عمير الضمري عن رجل من بهز، قال: “وَجَدَ النَّاسُ حِمَارَ وَحْشٍ عَقِيراً، فَذَكَرُوهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: “أَقِرُّوهُ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ”، فَأَتَى الْبَهْزِيُّ، وَكَانَ صَاحِبَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ؟ فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ فِي الرِّفَاقِ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ، ومر النبي وأصحابه بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فِي ظِلٍّ فِيهِ سَهْمٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ حَتَّى يُجِيزَ النَّاسُ عَنْهُ” (حديث صحيح).

لقد أثبت هذا الحديث جملة من التنبيهات التي تؤطر للملكية الفردية؛ المادية منها والفكرية، أوضحها فيما يلي:

– المرور على المعلومات حدوده المعرفة لا الاقتباس: فمرورك على المعلومة لا يعني غير المرور المعروف رسماً، المتفق على مآلاته منه عرفاً، من اطِّلاع واستفادة وتعلم وعمل، فقط المرور بضوابطه دون استحواذ له أو سلب من صاحبه، فإيجاد الشيء لا يعني تملّكه، بل يتطلب تعريفه ونشره كما في حكم اللقطة سواء بسواء.

– الرجوع إلى المحكم العلمي (هيئة حقوق الملكيات ورعايتها): “فذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم”، ذكر الصحابة الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة العودة إلى أهل التخصص والمنفردين في العلم والمؤسسات العلمية الحافظة -إن كانت موجودة، أو إنشاؤها عند عدم وجودها- رجوع التماس حق، أو نقد قول، أو توجيه فعل، أو تحذير من غواية، أو تنبيه لغاية، وغير ذلك، بل هو بمثابة الضابط للملكية الفكرية؛ كالمناقش للرسالة العلمية الذي يقر من خلال علمه وقراءته ما هو من بنيات فكر الباحث وإبداعاته أم من اقتباساته، ويؤكد في كل توجيه يرجع إليه أهمية التذكير بحقوق الآخرين.

لقد أدرك المجتمع المعاصر أهمية وجود مراكز دولية لبراءات الاختراع التي يحفظ بها جهد الباحث، ويحفظ حقه فيه، ويضمن بالقوانين عدم السرقة والانتهاك والانتزاع، وهو موجود في كل ما هو علمي وبحثي وتطبيقي من علوم الدنيا، لكن للأسف لم يؤسس بعد للباحث النظري والشرعي ما يضمن له ذلك الحق.

– التسليم الجمعي للتوجيه النقدي ونشره: فقوله: “أقروه حتى يأتي صاحبه” إقرار لكل جهد بذل وسبق قدم وغاية نتجت في قوله: “صاحبه”، نعم هو صاحبه الذي خطط وفكر وجمع وانتظر وكتب ووفق، فلا يحق لك منه شيء دون إذن وإجازة، فليس النص البحثي إلا ملكاً لمخترعه وكاتبه، ولا يعد كلأً مباحاً، فلا اقتباس ولا أخذ ولا نقل دون إذن صاحبه، عُرف الباحث أم لم يُعرف، اشتُهر البحث أم لم يُشتهر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حفظ حقوق الرجل في أرض فلاة مع غياب كينونته، وكذا ندرة متنه (الصحراء القاحلة)، وربما كذلك لصيده، لكن يبقى إسناد كل شيء إلى أهله منهجاً نبوياً فريداً.

– الإذن البحثي بالأخذ والاقتباس حق لصاحبه: “فَأَتَى الْبَهْزِيُّ، وَكَانَ صَاحِبَهُ فقال شأنكم بهذا”، ما أجمل أن يجد الباحث احتراماً من الجميع واعترافاً بما كتبه ورسمه؛ فلا تجاوز ولا تسفيه ولا الأخذ المحرم الجائر! وفي المقابل، ما أجمل أن يتركه بطيب نفس وفرحة عطاء! وغالباً يكون الباحث هكذا فقط يكفيه أن يعترف الآخر بعمله، وأن ينص على كلامه بعزوه، فهو فاهم للعلم مدرك لأهمية نشره.

– دور المشرف على العمل البحثي ضبطاً للمعايير وصيانة للأعمال العلمية: “فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ فِي الرِّفَاقِ”، هذا التقسيم بعد الإذن هو تقسيم ضابط لمعايير التعامل مع الأبحاث السابقة، لعدم الأخذ الكلي ومانع من الاستحواذ المنفرد، وكأن دور المشرف هنا إعطاء كل باحث ما يحتاجه لبحثه ونفسه، وتزوده لعلمه كتزود هؤلاء بصيد أخيهم في مواصلة مسيرهم واستكمال مهمتهم، لكن الفارق هنا في الملكية الفكرية هو بقاء العين والأثر، وهناك بقاء الأثر دون العين.

– المتابعة الدورية لكل ما ينتج على الساحة العلمية حفاظاً على الملكيات الفكرية: ففي قوله: “ومر النبي وأصحابه بِظَبْيٍ حَاقِفٍ.. إلخ”، فمروره صلى الله عليه وسلم المتريث على نفس المثال السابق هو عبارة عن متابعة دورية لتأكيد ما سبق من قواعد يحفظ بها الحقوق، وتصح معها نسبة الأعمال وحمايتها لأصحابها، وهو في الوقت نفسه تذكير مستمر لكل من بين يديه من طلابه وأبنائه من ترسيخ الحفاظ على الحقوق وعدم استسهال امتلاكها أو التسوّر عليها في غفلة من الجهات المعنية أو عدم شهرة صاحب السبق.

– إنشاء التوظيف الرقابي والوقائي للملكيات الفكرية: “فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ حَتَّى يُجِيزَ النَّاسُ عَنْهُ”، قد وظَّف النبي صلى الله عليه وسلم عاملاً مهمته أن يقف لكل من تسول له نفسه في اختلاس ما ليس له أو اغتنام ما ليس من تعبه توظيفاً يقي ويراقب في الوقت نفسه، فلا محاباة لأحد، ولا استثناء على حساب هذه الملكية، كما أنه سيبقى حتى يمر جميع الناس؛ وهذا يجعل الوظيفة قائمة، والنظام محكماً، والغاية عظيمة.

 

 

 

 

____________________________________

(*) دكتوراة في الحديث الشريف وعلومه- جامعة الأزهر الشريف.
     
إمام المنتدى العربي الألماني بلاندسهوت ألمانيا.

Exit mobile version