رباعية مالك بن نبي في النهوض

 

يقول مالك بن نبي: إن أي أمة لكي تنهض لا بد من توفر أربعة عناصر، هي: الأرض أو التراب، والإنسان، والوقت، والفكرة الناظمة أو العقيدة، ويرى أن العناصر الثلاثة الأولى موجودة في كل الأمم، فكل الأمم لديها قطعة أرض إقليم تعيش عليه، ولديها إنسان يعيش على هذه الأرض، ولديها الوقت فالشمس تشرق وتغيب على كل البشرية، والثروات وعناصر النهوض الطبيعية موزعة بالتساوي.

يرى بن نبي أن المشكلة الحقيقية لدى الأمة في غياب الفكرة الناظمة (العقيدة) أو الفكرة الباعثة أو المولدة للنهوض، وبناء على رباعية بن نبي في النهوض، ومن خلال رصد الحالة العربية، نجد أن الفكرة الباعثة على النهوض مرت بمراحل، فيما كانت المرحلة الأولى تعتقد أن النهوض يكمن في التخلص من الاحتلال، ولحصول على عنصر رئيس من رباعية بن نبي وهي الأرض.

وقد قامت الحركات الثورية ضد الاحتلال الأجنبي في مطلع القرن العشرين، وحصلت كل الدول العربية على استقلالها، لكن الكثير من تلك الدول لم تستطع النهوض وتشكيل حالة من التقدم الحضاري.

فجاء المد القومي وهو يعتقد أن فكرة النهوض تكمن في الوحدة العربية وإقامة مملكة عربية كبرى؛ فقامت الأفكار الناصرية والبعثية، لكن تلك الفكرة فشلت على أرض الواقع أشد الفشل، وتكلل ذلك بهزيمة عام 1967.

ثم جاءت الفكرة الإسلامية التي كانت ترى أن الباعث للنهوض يكون في البعث الإسلامي وإعادة تكرار النموذج القديم والإمبراطوريات الإسلامية القديمة، لكن الواقع أثبت بعد مائة عام على التنظير لهذه الفكرة أن النهوض متعذر من خلال هذا الممر، وأن التباينات العقدية الشيعية والسُّنية كانت من عوامل الفرقة والتشرذم والصراع والحروب الأهلية بعد «الربيع العربي»، لا عوامل الوحدة ولا الفكرة الناظمة للنهوض.

فيما ترى القوى التي تحاول الآن النهوض أن تبني فكرتها الناظمة للنهوض على نظرية الدولة الحديثة، الدولة الوطنية ودولة المواطنة والدولة الديمقراطية التي تم تجريبها في كثير من دول العالم، واستطاعت هذه الفكرة العبور بتلك الدول إلى حالة أفضل وحالة نهوض ملموسة حققت لهم شروط النجاح والتقدم.

يرى بن نبي أن في مسيرة محاولة النهوض التي تعثرت في العالم العربي ظهرت لنا إفرازات وكثير من الشخصيات أو طريقة التفكير التي تعيق عملية النهوض، ومن هذه الإفرازات:

– الإنسان النصف؛ وهو الإنسان الذي يطالب بحقوقه ولا يلتفت إلى واجباته، شديد الإلحاح بطلب حقوقه ولكنه لا يقوم بالحد الأدنى من واجباته أو من ثقافة المتاح المتوفرة بين يديه! يذهب للمدرسة ليمضي الساعات فقط وهمه الأكبر الحصول على تلخيص أستاذه أو المادة المطلوبة للامتحان دون أن يكون هدفه التعلم! يذهب للعمل ويقضي ساعاته بأي طريقة المهم بالنهاية أن ينقضي الوقت ويعود لحياته ويحصل على معاشه! لا يدرس كطالب ولا يعمل كموظف ولا يبدع في معمل ولا يبتكر في متجر ولا ينجز في مشروع! هو باستمرار إنسان النصف.. يطالب بحقوقه ولا يقوم بواجباته.

– إنسان الانتظار الأول؛ وهو الإنسان الذي يعتقد أن حالته سوف تتغير بالمعجزة، وأنه لن يُطلب منه شيء إلا مزيد من التقوى وممارسة الشعائر التعبدية لتشكل له حالة نهوض، والظن أن الزهد وحده القادر على جلب الكرامات.

– إنسان الانتظار الثاني؛ وهو الإنسان الذي يعتقد أن تقوم الحكومات عنه بكل شيء، وتوفر له كل شيء، دون أن يبادر ويشارك ويحاول المشاركة في تغيير الحالة القائمة بما هو متاح بين يديه، فلا مبادرة ولا إبداع ولا بناء.. إلخ، فهو يطلب كل شيء من الحكومة.

– إنسان التكديس؛ وهو الذي يستهلك كل ما تنتجه الدول المتحضرة دون أن يحاول أن يكون أي شيء من تلك المنظومة الإنتاجية، يركب أفخم السيارات، ويقتني أفضل التقنيات بما يملكه من ثروات طبيعية، فهو الإنسان الذي يجلس مجلس المستهلك للمنتجات الحضارية لا مجلس التلميذ المتعلم من تلك الحضارات.

ويرى مالك بن نبي أننا بحاجة إلى إعادة بناء عالم الأشياء والعلاقات والأفكار، وحتى يتم إعادة تشكيل عالم الأفكار لتحتوي الفكرة على نظرية صالحة للحياة لا بد من التخلص من الأفكار الميتة والمميتة، كما يصفها بن نبي، فكثير من الأفكار الميتة التي ما زلنا نتمسك بها، وكثير من الأفكار المميتة التي ما زالت تسيطر علينا وتشكل سلوكنا وطريقة تفكيرنا، تقف عائقاً أمام نشوء نظرية الفكرة الناظمة للنهوض والمأمولة في تحقيق الفرق.

إذا ما أسقطنا رباعية بن نبي في النهوض، سيكون واضحاً لدينا كل الوضوح أن الأمة العربية تملك من تلك العناصر الأربعة ثلاثة عناصر تتفوق بها على ما دونها من الأمم؛ إذ تملك 10% من مساحة الكرة الأرضية، وتملك 5% من الثروة السكانية، كما أنها تملك ما يقارب 32% من الثروات النفطية عصب الحياة في العالم وكثير من الثروات الطبيعية من أراض] صالحة للزراعة ومعادن نفيسة ومياه عذبة ومناخ معتدل وثرة حيوانية.. إلخ، إلا أنه ما زال ينقصنا الفكرة الناظمة التي تشكل المحرك للإقلاع والنهوض.

ونستطيع القول: إن الفكرة الناظمة التي يمكن الإقلاع من على منصتها يجب أن يتوفر بها العناصر التالية: الإيمان بالدولة الوطنية، والإيمان بدولة المواطنة، والإيمان بالديمقراطية كوسيلة لتداول السلطة وإدارة المال العام والشأن العام، وأن علينا أن نبدأ من حيث انتهت الأمم المتقدمة في عالم الأفكار ومواءمته بما يناسب بيئتنا ونطوره، ونبني عليه لا أن نحاول صناعة العجلة من جديد ونعادي كل ما هو جديد.

 

 

 

 

________________________

(*) المقال في بعض أفكاره جاء مما أورده د. جاسم سلطان في محاضرته فلسفة التاريخ عند مالك بن نبي.

Exit mobile version