حلاوة الإيمان

 

قالت لي وهي متضايقة: ترك ابني الصلاة وكلمته مراراً لكن دون جدوى، يصلي مرة ويترك مائة صلاة، قلت لها: لعلك قلت له: الصلاة عماد الدين، فمن تركها فقد كفر، ولو أدرك ابنكِ ما في الصلاة من لذة ما تركها، إن في الصلاة منحاً ربانية كثيرة، لكن لا أحد يحدثنا عنها لا من قبيل التجربة ولا من قبيل معرفة طبيعة الصلاة، وما يمكن أن يعود علينا من أدائها من راحة نفسية وسعادة قلبية وغذاء روحي وفرصة نخرج فيها من الدنيا لنحلق في الأفق الأعلى.

وهذه اللذات قد تأتي للمسلم ابتداء أو بعد جهود مضنية من ترويض النفوس واستجماع الفكر والقلب أثناء أداء الصلاة، روى عن عتبة الغلام أنه قال: “كابدت الصلاة عشرين سنة، ثم تلذذت بها باقي عمري”(1)، ثم تساءلت بيني وبين نفسي: هل للصلاة فقط لذة وحلاوة، أما أن لكل العبادات التي تجدد الإيمان وتوثق صلتنا بالله وتذكرنا بما أعده من فضل وإحسان وتعبر عن حبنا لربنا وطاعتنا لأمره سبحانه لذة أيضاً؟ وهل للإيمان نفسه طعم وحلاوة؟ فوجدت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الْإِيمَانِ، مَنْ كَانَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلاَ لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ الله كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ»(2).

للإيمان حلاوة تجعل المسلم يشعر بلذة للطاعة لا تعادلها لذات الدنيا، وتهون عليه ثقل الابتلاءات، وتخفف كل ثمن يدفعه لإرضاء الله تعالى، وحتى يصل المسلم لهذه الدرجة الرفيعة لا بد من أثمان تدفع، ذكر الحديث منها ثلاثة أمور:

أولها: حب الله ورسوله، والناس يحبون ربهم إذا عرفوه بأسمائه وصفاته، وتأثير هذه الأسماء في حياتهم والتفكر في بديع صنعه وعظيم قدرته ورحمته وإحسانه لخلقه والتفكر في أقداره، وكيف يلطف بعبده من حيث يدري العبد ومن حيث لا يدري، وكيف يرزق الخلق من حيث يحتسبون، أو لا يحتسبون، وكيف ينصر أولياءه ويخذل أعداءه مهما كان عندهم من أسباب القوة، وكيف يمحص المؤمنين ويمحق الكافرين.

كما تنشأ محبة الله تعالى من إدراك نعمه سبحانه على الإنسان، تلك النعم التي لا تعد ولا تحصى، وكيف يسوقها جل جلاله للخلق ويحفظها عليهم.

ومن مظاهر حب الله ورسوله حب الطريق الذي رسمه الله تعالى للعبد في هذه الدنيا، والاقتناع التام بأن الصراط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين، فمن أراد الغنى والعز والسعادة فصراط الله المستقيم واضح، ومن سلك غيره من طرق الدنيا طال سعيه، وربما حصّل أسباب الغنى وأسباب السعادة، لكنه سيبقى محروماً منهما، سيبقى فقره بين عينيه وسعادته أبعد ما تكون عنه {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (طه: 124).

ومن مظاهر حب الله ورسوله تقديم محبة الله تعالى على كل محبوب، فالشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسمومة والسيارات الفارهة والخيول الأصيلة والأراضي الزراعية والمعدة للبناء وغير ذلك مما يحبه الإنسان من متاع الحياة الدنيا، أحياناً يتمكن الإنسان من الحصول على هذه النعم بطريق الحلال، وأحياناً يتعسر عليه طريق الحلال، فلا ينال ما يتمنى، ولا يستطيع أن يحقق طموحه وسقفه العالي إلا بالحرام.

إن الاختبار الصعب الذي يقع فيه المسلم أن متع الدنيا محبوبة بالفطرة، وهي تنادي على الإنسان بكل صوت وتتشكل له بكل لون جذاب، ومع ذلك يقدم محبة الله تعالى على محبة هذه الأشياء؛ لأنه موقن بأن ما عند الله خير وأبقى.

إن إدراك الإنسان لما في الطعام من حلاوة أو مرارة دليل على الصحة، وكذلك إدراك القلب لحلاوة الإيمان دليل على سلامته من الأمراض والآفات، أما أن يدخل في الصلاة ويخرج منها دون أن يجد أثراً على قلبه راحة وسكينة، وعلى بدنه خفة ونشاطاً، وعلى عقله وعياً وإدراكاً، فلا بد أن يراجع طريقته في أداء الصلاة، ويراجع قلبه من حيث اليقظة أو الغفلة أو الحياة أو الموت، قال ذو النون: كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب(3).

عندما نسمع بما قدمه الصحابة والصالحون من بعدهم قد نستغرب أو ننكر، لكن هذا الاستغراب والإنكار يزول عندما نعلم أن حلاوة الإيمان تذيب مرارة المصائب، وهي أكبر دافع على البذل والتضحية، وأكبر حافز على الصبر الإيجابي الذي هو أحد مقتضيات الفرج القريب.

 

 

 

 

_______________________

(1) شرح صحيح البخاري لابن بطال.

(2) صحيح البخاري.

(3) فتح الباري لابن رجب.

Exit mobile version