علم من أعلام العراق وكردستان.. الشيخ المدرّس

الشيخ عبد الكريم المدرس

 

كان من المجددين وتخرج على يديه العشرات من علماء الدين داخل وخارج العراق، ومن أبرز علماء الدين في العراق، ومفتي العراق الأول، سار على نهج العلماء في إبلاغ ما تحمل من علم وفقه ومعرفة، قضى جل عمره في التدريس والوعظ والإفتاء، قضى عمره أيضاً في العلم والتأليف والبحث والفتوى والتدريس والتدقيق، عن الراحل، الشيخ عبد الكريم المدرس، يرحمه الله تعالى.

إن منهج الشيخ المدرس المتكامل وهو المعاصر نسبياً واضح المعالم بالنظر إلى إرثه الكبير الذي قدمه وتركه من علمٍ جليل، لا عجب أن لقّب بالمدرس، لقضائه زهاء 80 عاماً في التدريس، فهو سليل أسرة دينية تعنى بالعلوم الشرعية، وقرأ القران الكريم على والده وهو في السادسة من عمره. وختم قراءته بمدة وجيزة في حياة والده، ودرس كتب العقائد والأدب في السنة العاشرة من عمره، فابتدأ بتصريف الزنجاني في محرم الحرام من السنة نفسها وتدرج في دراسة كتب النحو والصرف، فدرس كتاب السيوطي “شرح ألفية ابن مالك” على المرحوم الحاج ملا عزيز إمام مسجد الملا محمد أمين، وقرأ كثيراً من كتب الفقه، ولاسيما الفرائض وبعض الأبواب المهمة من شرح المنهج لشيخ الإسلام القاضي زكريا الأنصاري. وكتاب التحفة للشيخ احمد بن حجر الهيثمي، ودرس الكتب المقررة في حلقات الدرس المتداولة في الشمال كلها، ولما صار على جانب كبير من العلم والمعرفة أجازه شيخه عمر القرداغي إجازة عامة بالتدريس، إلى جانب إتقانه اللغات الكردية والفارسية والعربية، كان طلابه من العراق وتركيا وماليزيا وإندونيسيا ويوغسلافيا، كان علامةً موسوعياً في معظم العلوم ومحققاً ومدققاً في علوم الشريعة، ومصلحاً اجتماعياً، وعالماً ربانياً زاهداً في الدنيا راغباً عن متعها، محبوباً لدى الناس، متواضعاً؛ اجتمعت عليه كلمة علماء العراق.

الشيخ المدرس هو عبد الكريم بن محمد بن فتاح بن مصطفى بن سليمان بن محمد الكردي الشهرزوري (1902م)، وهو من مدينة شهرزور الكردية، الواقعة بين أربيل وهمذان، ولقبه البياري نسبة إلى مدينة (بيارة) وهي تقع في أقصى الشرق من محافظة السليمانية.

ومنهج الشيخ المدرس منهجاً واضحاً لا لبس فيه فقد اتسم في طرح المسائل العقدية بطريقة وسطية موافقة للسابقين له في هذا الفن والعلم، حيث تخلله مسائل لم تطرح في أمهات الكتب العقدية السابقة مثل الوسيلة والتوسل وزيارة المسجد النبوي الشريف، ولعل ذلك ما يمكن أن نسميه بصمته الخاصة والفريدة به، وذكرنا أنه ينتسب إلى القومية الكردية وهي إحدى القوميات الرئيسية في العراق  حيث يتواجد معظم أهل هذه القومية في المناطق الشمالية من العراق، وقد دل على ذلك كتابه “علماؤنا في خدمة العلم والدين”، إذ ترجم للأعلام والشخصيات التي تنتمي إلى القومية الكردية، وكان له كما أشرنا عدد كبير من التلاميذ داخل وخارج العراق، وعددهم بالمئات، وقد ترك الشيخ عبد الكريم ثروة كبيرة من الكتب في مختلف العلوم والفنون الإسلامية  في علوم العقيدة وعلم الكلام والتفسير والفقه والنحو والصرف والبالغة والمنطق والسيرة والتراجم وغيرها.

كان الشيخ المدرس قليل السفر، وإن كانت رحلاته كلها من أجل العلم طالباً ومدرساً، حيث تنقل الشيخ المدرس في كردستان بين 11 مدرسة من منطقة هورمان في كردستان إيران والعراق، وسافر الى السليمانية طلباً للعلم مرتين وكذلك الى التكية الطالبانية في كركوك وبغداد العاصمة، فخلال تواجده في بغداد تمكن من التعرف على العديد من علماء بغداد مثل الحاج نعمان الأعظمي والشيخ إبراهيم الراوي والشيخ عبد القادر الخطيب، والشيخ فؤاد الألوسي وآخرون، و قد استفاد الشيخ المدرس في ناحية بياره من العلماء والمشايخ الذين كانوا يزورون الشيخ علاء الدين، ويمكثون فيها مدة طويلة وتحصل بينهم وبين المدرس المناقشات والأسئلة والأجوبة، بالإضافة إلى وجود المكتبة الفنية بالكتب القيمة والمصادر التي لم تترك موضوعا إلا استوعبته، واستمر في التدريس إلى أن أحيل على التقاعد العام (1973)، لكن السادة الكرام من العائلة الكيلانية شرفوه بتكليف البقاء في الحضرة الكيلانية للتدريس والإفتاء في الأحكام الشرعية وذلك لكونه مرجعاً فقهياً معتمداً ومتولي منصب الإفتاء ورئيس رابطة علماء العراق، فقضى أكثر من ثلاثين سنة من عمره في بغداد حياة مليئة بالثمار اليانعة من المؤلفات العلمية باللغات العربية والكردية والفارسية.

كان يقضي الشيخ المدرس أكثر وقته إما بالتأليف أو التدريس أو بالإجابة عن الأسئلة الموجهة إليه، من داخل العراق أو من خارجه فقد انتشر صيته في أنحاء العالم الإسلامي وبعد أن استقر في بغداد عام (1990) ترك السفر، واشتغل بالتأليف والتدريس فلم يغادرها إلا لضرورة قصوى باستثناء مغادرته لأداء مناسك الحج، بالتالي إن القارئ لمنهج الشيخ المدرس يتبين له أنه من أتباع المذهب الشافعي وما يدلل على ذلك أنه استدل على ذلك في كثير من مؤلفاته الفقهية وقدم أصحاب المذهب مثل الشافعي وكذلك الإمام الغزالي والإمام النووي  كما موضح في كتابه صفوة اللآلي من مستصفى الغزالي وكتاب إرشاد الناسك إلى المناسك، وجواهر الفتاوي، وكتاب الأحوال الشخصية للشيخ المدرس.

ترك الشيخ عبد الكريم ثروة كبيرة من الكتب في مختلف العلوم والفنون الإسلامية بلغت أكثر من 150 كتاباً، توزعت على أمور العقيدة وعلم الكلام والتفسير والفقه والنحو والصرف والبلاغة والمنطق والسيرة والتراجم وغيرها.

يعدّ المرحوم عبدالكريم المدرس أكثر مؤلف كردي من حيث غزارة الإنتاج، فقد قدم المدرس مجموعة من الكتب القيمة إلى المكتبة الكردية عدد صفحاتها اكثر من ستة آلاف صفحة فضلاً عن مؤلفاته القيمة باللغة العربية، مثل الوسيلة في شرح الفضيلة، ومواهب الرحمن في تفسير القرآن، وجواهر الفتاوى، والفرائد الجديدة التي تحتوي على نظم الفريدة وشرح المطالع السعيدة للإمام السيوطي، كما أجاد في علم المنطق والنحو والصرف والوضع والبيان، التي هي عبارة عن رسائل تعليمية كان قد أعدها لطلابه في مراحل دراسية متقدمة حيث كان يتولى تدريس هذه المواد عندما عمل مدرساً في المدارس الدينية، كما كان الشيخ المدرس صاحب موهبة في قرض الشعر، وكان ينشد الأشعار باللغات العربية والكردية والفارسية ، وكثير من كتبه وضعها على هيئة منظومات شعرية، وله ديوان شعر بالكردية كما تقدم في مؤلفاته.

ومن شعره ما قاله في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

 طلع نور سيد الأنام        للعقل والعلم وللإسلام

للبر والبحر وللأفلاك        للإنس والجن وللأملاك

منّوراً مطهراً مكيناً          وقد تربى صادقاً أميناً

لكن أجمل ما في الراحل وكما تعودنا على رجال الدين الأتقياء الأوفياء والمخلصين لدينهم، شعارهم التواضع فعلاً لا قولاً، مسيرة جهاد حقيقية يخوضونها في سبيل إعلاء الحق ونصرة الإسلام وإعلاءه، طمعاً بالدار الآخرة لا خيرات الدنيا وملذاتها، لقد كان الشيخ المدرس زاهداً في الحياة، عاش في غرفة متواضعة في الحضرة الكيلانية يستقبل زواره باحترام وأدب، فقد زاره الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر وولديه هيثم ومحمد لتلقي العلوم الدينية في نفس الغرفة البسيطة التي يستقبل فيها محبيه من أنحاء العالم دون أن يفرق الرئيس والمرؤوس والفقير والغني، ليس هذا فقط، فإلى جانب المسيرة العلمية العريقة، مع بداية العدوان الأمريكي على العراق اصدر الشيخ عبد الكريم بيارة باعتباره مفتي العراق فتوى الجهاد لمواجهة المحتل أكد فيها أنه بعد بدأ العدوان على أرض المسلمين وديارهم، فإن الجهاد أصبح فرض عين على كل مسلم وأن الابن لا يستأذن والده عندما يخرج للجهاد؛ والزوجة لا تستأذن زوجها عندما تخرج للجهاد؛ وقد أعلن ذلك أمام مجموعه من مراسلي الفضائيات من مقر إقامته، وكانت غرفته مساء كل يوم مكاناً لتواجد المجاهدين من العراقيين والعرب والمسلمين حيث انهم كانوا يحضرون للتبرك بمجلسه وسماع إرشاده والتماس الدعاء لهم ؛ وفي تلك الأيام اصدر الفتوى الثانية حول مشروعية العمليات الاستشهادية.

الشيخ المدرس وافق سلف الأمة في مسألة الإيمان والذي عليه إجماع الأمة من الأشاعرة والماتريدية، وغالب الأمة، وخلاصة القول إن الشيخ المدرس قد تبنى آراء المدرستين الأشعرية والماتريدية والتوفيق بينهما، تبين ذلك من خلال إيضاحه لمعاني النصوص القرآنية التي تحدثت تارة عن الإرادة الإلهية وكيفية علاقتها بالإرادة الإنسانية التضمينية، وكذلك المشيئة وعلاقتها باختيارات الإنسان للكسب وفي هذا يعد الشيخ النموذج الذي يمثل المدرسة الأشعرية في القرن العشرين، ولم يخالف إلا المتنطحين والغلاة والجبرية القائلين بخلاف المدرستين الأشعرية والماتريدية، كما أوضح لنا الشيخ المدرس في مؤلفاته أن العقل البشري غير كافٍ للاهتداء إلى وجود الله وفيه القصور مما يستدعي بعثة الأنبياء وغير ذلك من المباحث العقدية ذات البعد الإيماني الكبير لعالم دين من القرن العشرين بين لنا أن مثله قلائل رحمه الله تعالى.

ومن واجب الوفاء لعظماء هذه الأمة أن نستحضرهم ونتذكرهم ونبين مآثرهم خاصة أولئك الذين ظلمهم التاريخ ودولهم من خلال تغييبهم عمداً أو سهواً،  خاصة مع ظهور تيارات معادية حاولت النيل من الإسلام بكل وسيلة ممكنة، ومنها محاولات تشويه عقيدته وتحريفها بإثارة الشبهات والطعون، ودورنا يجب أن يكون الوقوف سداً منيعاً في وجه هذه المحاولات، وليس أبلغ من طريقة للرد على ذلك إلا بذكر علماء الأمة الإسلامية، القدماء منهم والمعاصرين، فالشيخ المدرس  صاحب تصانيف في علوم مختلفة، أثنى على علمه علماء عاصروه وآخرون جاؤوا من بعده، إذ قال عنه العلامة المفكر الدكتور مصطفى الزلمي: “العلامة الشيخ عبد الكريم المدرس عالم جليل لا مثيل له في عصره بالنسبة لعلوم الآلة، كان كريماً وسخياً تجاه من يعرفه ومن لا يعرفه، وكان ملتزماً بالإسلام التزاماً موضوعياً علمياً بعيداً عن الخرافات والجدل”، لم يكن الشيخ الراحل ممن يحب الظهور الذي تهواه الكثير من النفوس كما لم يكن يميل إلى التقرب من الحكام، إذ كرس حياته للعلم وكان يستغل وقت الفراغ في كتاباته ومؤلفاته الدينية والأدبية، ومن أهمها تفسير القرآن الكريم وكذلك القاموس العربي الكردي، وكان له اهتمام كبير في التاريخ، ومن مؤلفاته في هذا المجال كتابه: (علماؤنا في خدمة العلم والدين) باللغة العربية. أما في اللغة الفارسية، فقد ألف وهو في عمر 18 عاما رسالة “شمشير كاري في رد من أنكر التقليد والاجتهاد” ردا على آية الله الكردستاني (من علماء إيران)، وشغل الشيخ المدرس رئاسة رابطة علماء العراق من 1974 إلى 2003م، كما أنه كان عضواً عاملاً في المجمع العلمي العراقي من سنة 1979 إلى 1996م، ومن بعدها أصبح عضواً شرفياً، وعضواً مراسلاً في مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضواً مؤازراً في مجمع اللغة الأردني 1980م.

وقـد كان للكرد علـى اختلاف مشـاربهم وطوائفهم دور كبير وبارز فـي خدمة الإسلام، كما أن المذاهـب الفقهية فـي بداية انتشارها وتوزعها بيـن المسلمين كانت بسـبب الفقهاء الذين انتسبوا إليها فكرياً، مثل القاضي ابن طض الدينوري، والعالم الشيخ أبو القاسم عمر بن محمد الجزري، وأبي عبدالله محمـد بـن عبدالعزيـز الإربلي.

الشيخ المدرس من أعلام العراق وكردستان، فقيه، ومحدث، ومفسر، وأصولي، ومتكلم، ولغوي، وأديب، في ذكراه عسى أن نكون قد وفقنا في هذه الإضاءة البسيطة عنه وعن عطاءاته الرائعة، ونؤكد مرة جديدة أن الإسلام دين الإنسانية لا دين قومية أو عرق محدد، فالقومية الكردية هي شقيقة العربية والفارسية والتركية والقوقازية، بعيداً عن كل التجاذبات السياسية يبقى الكرد مكوناً أصيلاً وأخاً لنا، فهكذا تعلمنا من الإسلام وهكذا سنكون والأكيد أننا هكذا سنبقى.

 

 

 

 

 

__________________

(*) كاتب ومفكر كويتي.

Exit mobile version