النيل في الأدب العربي

كان النيل.. أبدًا.. وسيظل أبدًا.. رمزًا للخير والبركة واليمن والعطاء فهو من أطول أنهار الدنيا، وأوفرها ماء ورواء.. يجري فيقطع رحلة طولها 6740 كيلومترًا، تحمل معها معالم الحياة ومواسم الأحياء.. وكانت شعوب النيل قد بلغ بها الوفاء لهذا النهر العظيم، أن جعلت من وفائه عيدًا، ومن فيضانه خيرًا يقتضي الشكر، ومن فيضانه خطرًا دونه الموت والهلاك المبين..

وللنيل وضع خاص بالنسبة لمصر وأهلها، فقد شيد حضارتها، وسطر تاريخها، وخلع على أرضها ألوان السحر من خصبه، فعرفت الجمال، واهتدت إلى الفن بما قبست من ألوانه في التصوير، وسجلت أنغامه في الموسيقى، وصاغت آلاءه في الشعر والأدب، وسبحت بنغمته في القصيدة، ورتلت باسمه في الأناشيد.

حجم مياه النيل تعادل حجم مياه نهر الكونغو ونهر الأمازون

وموقع مصر من المياه موقع محمود، فمصر كأنما اختارت من كل أنواع المياه أحسنها: عذبًا ومالحًا، فتعددت المصادر من بحرين وخليجين، ونهر وعشر بحيرات وست واحات.. فأصبح أهل مصر، والماء أمامهم وعن أيمانهم وشمائلهم، والنهر تحت أرجلهم، فإذا ما صعدت إلى دلتا النيل وجدت ماء تتخلله زروع وسكان، لا أرضًا تتخللها مياه وشطآن..

وعلى نيلها.. وأهلها.. كان من أمر الإمرة والأمراء، الذي شارك فيه الحكام أهل مصر أفراحهم وأتراحهم.. على أساس من عقيدة صحيحة.. وحب صالح.. وود قويم.. وكان “وفاء النيل” من المناسبات التي يتنافس فيها الأدباء والشعراء والخطباء، فيكتبون رسائل البشر، ومقامات الفخر، وألغاز الفكر، وخطب الشكر والذكر.. يعيشون في ذلك كله مع النيل في نقصانه وطغيانه، ويحيطونه وصفًا بكل حالاته ومآلاته ومظاهره ومآثره.. وكان الأقدمون يعتقدون أن نهر النيل ليس في الدنيا نهر أطول منه، فهو يسير مسيرة شهر في بلدان الإسلام، وشهرين في بلاد النوبة، وأربعة أشهر في الخراب.. وهو أغنى أنهار الدنيا.. لكن الحقائق العلمية المعاصرة تقول: “إن حجم مياه نهر النيل تعادل 1/15 من حجم مياه نهر الكونغو، كما تعادل 1/30 من حجم مياه نهر الأمازون، هذا فضلاً عن أن الأمازون والكونغو يجريان في مناطق غنية بالمياه، بينما النيل يجري معظمه في مناطق صحراوية، إلى جانب اعتماد السكان عليه بشكل أساسي في الشرب والحياة”.

ومهما يكون من أمر.. فإنه النيل، هبة الله، التي تهب أهل الوادي وجودهم وخلودهم.. وتجعل من مصر “سلة الخبز”، وتكسو أهلها بهاءً ورواء مما يجعل دارهم وواديهم خضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه، وتزهر الخوانق والمدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، فقد مثل بحر النيل نهر الجنة، ومدفع مياه السماء، يسقيهم النهل والعلل، سيحه، ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثجة.

الهيام بالنيل كمصدر إبداع أدبي وفني مصدر أصيل للأدب الأفريقي

كما نقل عن شيخ المؤرخين المصريين ابن زولاق تهاني “وفاء النيل” (306 – 387هـ) وعنه نقل ابن عفان، وياقوت، والقزويني، وابن خلكان، والنويري، وابن الزيات، والمقريزي وابن حجر.. وتوارد النقل حتى حسين مؤنس، وسليمان حزين، وجمال حمدان، ونعمات فؤاد.. وسائر المحبين والعشاق حقًا.. وصدقًا.. وكما ورد في الأثر، فإن ولاية مصر تعدل الخلافة.

وظل النيل أبد التاريخ شريان الإنسان، وسيد المكان، ومصدر الفن والجمال والإبداع.. حيث كان فيضان أو غيضان النيل، مادة ثرية للمراسلات، وبابًا واسعًا للمكاتبات والحكايات ومناسبة حية للبشارة أو النذارة.

ومن تلك البشارة لمحي الدين بن عبدالظاهر الملقب بشيخ أهل الترسل (620 – 691ه‍) كتبها عن الملك منصور بن قلاوون إلى نائب حلب يقول فيها:

“وذاك ما هيأ الله له من زيادة النيل الحسنة التصريف، والضيف الذي يزور البلاد المصرية في كل سنة، ولكنه يؤثر التخفيف، ويأتي ووجها مغبر، ونبتها مصفر، وساكنها مضطر، فما يزول إلا وثغرها مفتر، وضرعها قد درّ، وبرها قد بر، وقسم الخصب لها قد أبر، ورخاؤها قد كرّ، وجدبها قد فرّ”.

هذه هي مصر ونيلها، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في ثلاثة وثلاثين موضعًا.. مقرونة بالبحر.. والنهر.. واليم.. والربوة.. على ما رجح الإمام السيوطي رحمة الله عليه.

حمدان: مصر هي النيل وبدونه لا كيان لها كما أن النيل لا يستوعب حضارياً إلا في مصر

ومن رسالة للشاعر الكاتب جمال الدين بن نباته (686هـ – 768هـ/ 1287 – 1366م)، يصف فيها “فيضان النيل” وزيادته وطغيانه فقال: “وأما النيل فقد استوى على الأرض فثبتت فيها قدمه، وامتد نصل تياره كالسيف الصقيل، فقتل الإقليم، وهذا الاحمرار إنما هو دمة، فلم يترك وعدًا بل وعيدًا إلا وفاه، ولا وهدًا بل جبلاً إلا أخفاه، أقبل كالأسد الهصور إذا احتد واضطرم، وجاء من سن الجنادل فتحدر وعلا حتى بلغ الهرم..

وتحدثت الرسائل الإخوانية في أدبنا العربي إلى الأهل والأحباب، والخلاّن والأصحاب في شتى الديار والأقطار.. تصف ذلك النيل العجب، وأرضه الذهب..

ومن هذه الرسائل رسالة كتبها الشيخ زكي الدين الحسين سنة 762هـ إلى أخيه بدمشق يقول فيه: “وهلا ذكرت مصر وقد باكرها نيل النعيم بنعيمه، وبليل النسيم بكأس تنسيمه، وطمي البحر عليها زاخرًا فأغناها عن بكاء السحاب وتجميمه، وعن أعظم أرضها، وعبّ عبابه في طولها وعرضها، حتى كاد يعلو رفيع قصورها، وتتسور سورته شامخ سورها”.. وروى السهل والوعر والهضاب والوهاد، وذهب إملاق الأرض ملقة خليج، وانجاب بها فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وبدت روضته بأملاق مقطعة، كزمردة خضراء بلآلئ مرصعة، فكم من غرير مستدير كبدر منير..”.

وقد دون المؤرخون والعلماء الكثير من خطب وأدعية الاستسقاء، من ذلك ما دونه الإمام السيوطي (1445 – 1505م) رضوان الله عليه: “اللهم فارج الهم، كاشف الغم، مجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا والآخرة، ورحيمهما، أنت ترحمنا، فارحمنا رحمة من عندك تغنينا بها عن رحمة من سواك، اللهم بقدرتك أجر نيلنا، وبلغ به المنافع، وعم به جميع الأراضي والمزارع، اللهم وفر من الجنة مزاجه، وأكثر به البركة، وادفع به الحاجة، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، وأنبت علينا من بركات الأرض، اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع، اللهم بالبلاد والعباد من الاحتياج إليه ما لا يعلمه ألا أنت.. اللهم دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا”.

الخطب والمراسلات وأدعية الاستسقاء والروايات والمسرحيات والفنون الشعبية.. دفتر أحوال الثقافة النيلية

مصر هبة النيل

يقول أديب الجغرافيين، وجغرافي الأدباء د. جمال حمدان: “مصر هي النيل، فبدونه لا كيان لها، ليس فقط من حيث مائه، وإنما أيضًا من حيث تربته، إن النيل لا جدال هو أبو مصر، منه استحدث لحمها ودمها، أي طميها وماءها، كما أن النيل لا يستقطب حضاريًا إلا في مصر”.

وقد كان النيل ولا يزال أنشودة الشعراء ومغناهم، وحديثهم ونجواهم، فلم يقصروا في استجلاء مشاعرهم نحوه، وواصلوا في حبه الشدو والغناء وكيف لا؟ وهو مصدر اليمن والخير والبركة، ومنبع الخير والرزق والعطاء، وبه تكون الحياة، وبدونه لا تكون أبدًا.. فهو قوام المعايش، فضلاً من الله ورزقًا حسنًا.. فمصر كما قال “هيرودوت” المؤرخ اليوناني من قديم، هي “هبة النيل”، ومصر والنيل هبة الله عز وجل.

النيل ديوان الفن والأدب وسجل التراث والتاريخ لأكثر من عشرين دولة

وقد علا نيل مصر يومًا في زيادته، حتى قيل: إنه بلغ الأهرام، فقال صلاح الدين بن هندي:

فقلت هذا عجيب في بلادكم             أن ابن ستة عشر يبلغ الهرما

وقال ناصر الدين بن النقيب:

كأن النيل ذا فهم ولب           لما يبدو لعين الناس منــه

وقال برهان الدين القيراطي (726هـ – 781) :

خليليّ بحر النيل لا شط شطه

موارده تحلو لنا والمصادر

فدع عنك أنهار الشآم ولا تكن

لكوثره بالنذر منها تكاثر

له شيم في الحسن ظاهرة علت

تدو على الأنهار منها الدوائر

فكم غصن بان فيه للعين نرجس

وللخد ورد عاطر الزهر ناضر

ويقول شاعر آخر :

نيل مصر لمن تأمل مرأى              حسنه معجز، وبالحسن مُعــجب

كم به شاب فودها وعجيب              كيف شابت بالنيل والنيل يخضـب

وفي عام 709 هـ، توقف النيل عن الوفاية، وبلوغ الكفاية، وفي هذا يقول شهاب الدين محمود الحلبي:

يا أيها النيل المبارك إن تكن

من عند ربك تجر فاجر بأمره

أو إن تكن من عند نفسك آتيًا

فالله يبسط بِرّه في بَرِّه

كم من بلاد لست تعرف أرضها

ملأ الإله بيوتها من بُرّه

يشير في ذلك إلى رسالة الفاروق عمر بن الخطاب إلى نيل مصر العظيم، فيما رواه ابن الجوزي في  كتابه “سيرة عمر بن الخطاب” وغيره من كتاب السير، حين شكا الناس إليه أن النيل لا يجري قليلاً ولا كثيرًا، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص ، واليه على مصر رسالة وفيها: “من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر: أما بعد… فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله  الواحد القهار هو مجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك، فألقى البطاقة في النيل، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج، فأجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة، ودفع تلك السُنة عن أهل مصر إلى الأبد.

وقد أثبت صحة هذه الوثيقة عالم الآثار المصري الشهير “سليم حسن”، وغيره من المؤرخين وعلماء الآثار.

ومن ثم.. صارت العلاقة بين النيل وأهله… علاقة ود متبادله..تقوم على حُسن الفهم والمساجلة… فكل منهما يقرأ ما في نفس الآخر..

كأن النيل ذو فهم ولبّ               لما يبدو العين الناس منـه

فيأتي حين حاجتهم إليه           ويمضي حين يستغنون عنه

أصل الحضارة

فإذا ما تجاوزنا رحلة طويلة من الزمان والإنسان..

سنجد النيل مادة طيبة، تجري بطيبها بين البلاد فتصلح ما أفسده الدهر، حيث الناس جميعًا كما قال أبو تمام قديمًا…

إن يكد مطرف الإخاء فإننا

نسعى ونسري في إخاء تالــد 

أو يختلف نسب يؤلف بيننا

أدب أقمناه مقام الوالد

أو يفترق ماء الوصال فماؤنا

عذب تحدّر من غمام واحد

وعلى حب النيل وقربه وذوبه.. كان المصريون يتعاقدون.. ويتعاهدون لذا… نرى محمد بن القاسم الدارمي يقول:

كأنما النيل إذا نسيم ريح حرّكــة

بنيّة ترقص في غلالة ممسّكـــة

تزيل في تحريكها لكل عضوٍ حركة

وسنجد الكثير من الأجانب الذين عاشوا على ضفافه، أو زاروه فأحبوه وأحبهم، حتى شفهم سحره وأنسه، فقالوا فيه الجميل من الشعر والنثر، مثلما فعل “أيدمر التركي” الذي قال:

انظر إلى النيل السعيد المقبـل          والماء في أنهاره كالسلسل

أضحى يربك الحسن بين مورد          من لونه حينًا وبين مصندل

ويمر في قيد الرياح مسلسـلاً يا       حُسنه من مُطلق ومسلسل

بينما نرى ناصر الدين أبو بكر بن سلام يقول في هذا الكوثر السيال:

لعمرك ما مصر بمصرٍ وإنما            هي الجنة العليا لمن يتفكـــر

فأولادها الولدان من نسل آدم     وروضتها الفردوس والنيل كوثر

وها هو أمير الشعراء أحمد شوقي أيضًا يخاطب في النيل تراثه المصري العريق، الذي انساب في وجدان الشعب  المصري من آثار الفراعنة القدماء حتى أتى عليه الإسلامُ بالتصحيح والتصويب ٠٠٠٠ فيخاطب في النيلِ وده بإلقاء عروس النهر الحسناء، ليرضى النهرُ عن المصريين فيرويهم من مائه الذي أجراه رب العالمين، فيقول:

من أي عهد في القرى تتدفـق             وبأي كف في المدائن تغدق

ومن السما نزلت أم فجرت من            عليا الجنان جداولاً تترقرق

إلى أن يقول:

يتقبل الوادي الحياة كريمة

من راحتيك عميمة تتدفق

وإليك بعد الله يرجع تحته

ما جف أو ما مات أو ما ينفق

أصل الحضارة في صعيدك ثابت

ونباتها حسن عليك مخّلـق

بل كان النيل يتغلغل في دماء أمير الشعراء أحمد شوقي بدءًا من جدران بيته (كرمة ابن هانئ المطل على النيل) إلى تغنيه بالنيل بالفصحى والعامية، على أن النيل هو (الشريان الأبهر) الذي يتدفق من سودان الخير إلى مصر الحياة، فيقول:

فمصر الحياة وسودانها               عيون الرياض وخلجانها

وما هـو ماء  ولكنـه                     وريد الحياة وشريانـها

تتمم مصر ينابيعـــه                    كما تمم العين إنسانـها

وأهلوه منذ جرى عذبه                ذخيرة مصر ووجدانها

ويجيبه صدى صوته، الشاعر السوداني عبد الرحمن الأمين من “ديوان العروبة” مرددًا:

                   هل مصر والسودان إلا في رباه عشيرتـان

                   وربيبتان بحجره، وعلى هواه مقيمــتـان

                   شعباهما مهما بهم… ترمى النُّوي يتلاقيان

                   وبنعمـة الله الكبير وفضله تتحدثــــان

لذا نرى الشاعر المبدع صالح جوت (1912 -1976) .. شاعر النيل والنخيل، يستوحي النيل في تعبيره عن الوحدة والأخوة المصرية العراقية في ديوانه ” ألحان مصرية” فيقول:

وحق الذي عقد الآصــرة                  ووحد بغداد والقاهـــره

وذوّب في النيل حب الفرات            وقرب من “عارف” “ناصره”

وذلك في مهرجان الشعر العربي السادس في بغداد بالعراق.

ولقد كان وما يزال النيل .. أنيس العشاق، وملهم الأشواق .. ومحيا الوادي.. ومأوي الحاضر والبادي .. وماتزال الدنيا تردد علي البديه، وتنطق بلسان الفطرة “مصر هبة النيل”.

 

 

 

 

 ____________________________________

أهم المـــراجع:

Exit mobile version