قصة اتفاقية غاز البحر المتوسط “المثيرة” بين تركيا وليبيا

 

ظلت الحركة في البحر المتوسط تسير بصورة تقليدية حتى فاجأت تركيا العالم بتوقيع اتفاقية ترسيم حدودها البحرية مع ليبيا، في نوفمبر 2019، وهو ما شد انتباه الدول المتشاطئة في شرق المتوسط، وفجَّر غضب اليونان التي كانت –وما زالت- تطمح لفرض سيادتها وقيادتها لإدارة ثروات النفط والغاز في المنطقة، وتحالفت معها في ذلك مصر، وتحول الهدوء الذي اتسم به حوض البحر المتوسط في الفترة الماضية إلى نشاط محموم من الدول المتشاطئة، كل يسعى إلى اقتناص ما يعتقد أنه حقه من المياه الإقليمية، وبالتالي من ثروات النفط والغاز وخاصة اليونان صاحبة العلاقات المتوترة مع تركيا ومعها مصر التي لا تقل علاقاتها مع تركيا سوءاً عن اليونان؛ فاتحدت الدولتان من باب المكايدة السياسية من جانب، ورغبة في إفساد أي مكاسب لتركيا وليبيا من جانب آخر!

وبعد ترسيم الحدود، ظل الجميع يترقب تطورات الوضع منتظرًا الخطوة القادمة، بينما كان الصمت سيد الموقف لدى تركيا وليبيا حتى بدا الأمر وكأن المسألة توقفت عند اتفاقية ترسيم الحدود، لكن الذي ثبت أن العمل كان يجري على قدم وساق بعيدًا عن أعين الإعلام.

لقد تم تطوير هذه الاتفاقية وتسريع خطواتها بشكل ممنهج ومتفق عليه بين الطرفين حتى فوجئ العالم بزيارة خاطفة من وفد تركي للعاصمة الليبية طرابلس استمرت يومًا واحدًا تم خلالها توقيع الاتفاقية النهائية قبل أيام لترسيم الحدود البحرية (في 23 أكتوبر 2022).

ويبدو أن كل الترتيبات التركية العسكرية بالتنسيق مع ليبيا كانت جاهزة لحماية تنفيذ الاتفاقية، قطعاً للطريق على أي محاولات لإفسادها، فسفن الحفر والاستكشاف التركية جاهزة وستكون مصحوبة بالفرقاطات الموجودة حالياً قبالة سواحل ليبيا عند البدء في التنفيذ، ومن حولها قطع الأسطول التركي المكون من 3 قطع بحرية، كما أن الموقف السياسي لكل من تركيا وليبيا قوي ومتمسك بتنفيذ هذه الاتفاقية، وقد بدا ذلك في تصريحات وزير الخارجية التركي الذي قلل من أهمية ردود الفعل اليونانية الغاضبة المصحوبة بتهديدات بالحرب وسط تأييد مصري، كما بدا في تصريحات رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة خلال التوقيع الأخير على الاتفاقية قائلًا: “لن نتنازل عن حقنا في المياه الإقليمية جنوب جزيرة كريت.. سيعزز البروتوكول الموقَّع ثروتنا النفطية الكبرى والاستثمارات ذات الصلة في مياهنا الإقليمية”.

ومصدر انزعاج اليونان جاء من أن هذه الاتفاقية -التي تشكل سابقة لدول أخرى يمكن أن تحذو حذو ليبيا- أوجدت واقعاً جديداً في شرق البحر المتوسط قلب الموازين، وأعطى لتركيا وليبيا نفوذاً كبيراً مقابل تقليص نفوذ اليونان، واستمرار ضعف النفوذ المصري؛ وهو ما يعني اختلال ميزان القوى بين اليونان التي كانت مسيطرة على المنطقة من قبل، وتركيا التي باتت صاحبة الكلمة الأولى، ونفس الأمر بين مصر وليبيا، وذلك ما زاد التوتر اشتعالاً بين تركيا واليونان التي تثير منذ سنوات توترات ضد تركيا في بحر إيجة، وتسعى بكل ما لديها من إمكانات وعلاقات لمنع تركيا من التوغل في المتوسط عبر اتفاقها الأخير مع ليبيا.

تركيا تنتصر في صراع الحفاظ على ثرواتها شرق المتوسط.. وتؤمِّن حقوق ليبيا

وتسهم هذه الاتفاقية في زيادة مساحة الحدود البحرية في البحر المتوسط لكلا البلدين (تركيا وليبيا)؛ وبالتالي توفير كميات ضخمة من النفط والغاز ستسهم بلا شك في إحداث طفرة حضارية، كما أنها تفتح الطريق لزيادة التعاون الأمني والعسكري والعلمي والاقتصادي والفني والتكنولوجي وتبادل الخبرات والتدريب والتطوير، وزيادة إنتاج البلدين، وتطوير التعاون الثنائي إلى نوع من الشراكة الإستراتيجية في شتى المجالات، وهو ما يعني تواجداً تركياً مكثفاً في المنطقة لإدارة هذه الشراكة مع ليبيا.. هكذا قال لي الأدميرال جهاد جهاد يايجي، رئيس ومؤسس “مركز الإستراتيجية البحرية العالمية”، رئيس الفريق التركي المفاوض في اتفاقية الغاز التركية الليبية، رئيس الفريق التركي المفاوض في هذه الاتفاقية (في حوار أجريته معه).

خبرتي في الكتابة بشؤون النفط والغاز لأكثر من 10 سنوات بجريدة “الشعب” المصرية (1984 – 1994م) بيَّنت لي أن المنطقة أمام كنز كبير، وهذا ما دفعني للاسترسال في النقاش مع الأدميرال يايجي، فألقى أمامي خرائط الاكتشافات وخلاصات دراساته وأبحاثه التي تؤكد أن هذه الثروة كفيلة بتحقيق طفرة كبرى، قائلًا: إن خرائط المسح الجيولوجي تؤكد أن المنطقة المطلة على البحر المتوسط من قبرص التركية بالاشتراك مع تركيا تغطي احتياجات تركيا من الغاز 572 عامًا، وإن المنطقة بين قبرص ورودس تغطي احتياجات قبرص 32 عامًا.

وأضاف أن الاتفاقية التركية الليبية وفرت 40 ألف كيلومتر إضافية على المياه الإقليمية بين ليبيا وقبرص التركية، وهي تساوي 4 أضعاف مساحة قبرص الكلية، وستكون مناصفة بين تركيا وليبيا، وتحتوي على غاز قيمته 30 تريليون دولار، وهو ما يمكن أن يتحقق لمصر لو وقَّعت اتفاقية مماثلة مع تركيا، ولكنها ركنت لليونان فلم تكسب شيئاً، وما زالت الفرصة سانحة.

وقبل أن أغادره أكد لي حقيقة مهمة، وهي أن مَنْ يحافظ على مياهه الإقليمية دون التفريط فيها سيكن صاحب ثروة ضخمة من الطاقة (النفط والغاز)، ويمتلك بذلك أهم مفاتيح النهضة، فالبحار حول العالم تمتلك 50% من النفط، و30% من الغاز؛ وبالتالي يجوز لنا القول: إن مستقبل الأجيال القادمة موجود في البحار، ومن يتخلَّ عنها سيدفع ثمناً غالياً جداً، وسيكتب التاريخ أن من يفرط فيها خائن لحقوق الوطن.

 

 

 

 

 

________________________________

(*) مدير تحرير “الشعب” المصرية، و”المجتمع” الكويتية– سابقاً.

Exit mobile version