عبدالسلام هارون.. رحلة مع أصالة التراث العربي (2 ـ 2)

 

حظيَ التراث العربي باهتمامٍ كبير في دراسته وتحقيق كنوزه، خاصة من المهتمين بهذا التراث الذي ملأ المكتبات العالمية من شرقها إلى غربها، وظهر جيل من المحققين أخذ على عاتقه مهمة إحياء هذا التراث، والإثبات أنّه قادر على التحقيق والتعامل مع هذه المخطوطات.

وما زلنا في رحاب هذا العلم عندما سردنا عن علمٍ من أعلام التحقيق في التراث العربي وهو العالم الجليل عبد السلام هارون رحمه الله، الآن سنبحر بإنجازات شيخ المحققين، وعرض آثاره الأدبية واللغوية، إضافة إلى دوره في بعض الكتب التي حققها، والكتب التي اشترك في تحقيقها، والكتب التي ألفها، والفهارس التي عملها، إضافة إلى رصد موجز لمسيرته النقدية.

إن عملية ضبط الكتب والمخطوطات القديمة هي فن مستقل سار عليه المعاصرون من خلال قواعد وضوابط مكنتهم من تحقيق الغاية المنشودة، فالتحقيق يدور حول إخراج الكتاب على أسس صحيحة محكمة من التحقيق العلمي في عنوانه واسم مؤلفه ونسبته إليه وتحريره من التصحيف والتحريف والخطأ والنقص والزيادة أو إخراجه بصورة مطابقة لأصل المؤلف أو الأصل الصحيح الموثوق إذا فقدت نسخة المؤلف، فيطلب في النص المحقق صدق مطابقته لما وضعه عليه صاحبه من غير تحريف.

وقديماً كان التحقيق يدور حول التثبت من الراوي والرواية، من حيث الصدق والأمانة، وكانت وسائلهم لا تتعدى امتحان الرواية لفظاً ومعنى وإعراباً، وامتحان الرواية خلقاً وديناً وحفظاً وأمانة وفصاحة، وكان الجاحظ يسمي العالم المحقق “محقاً”، وذلك في قوله: “إنّه لم يخل زمن من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلا وفيه علماء محقّون قرؤوا كتب من تقدمهم ودارسوا أهلها، فمخضوا الحكمة، وعجموا عيدانها، ووقفوا على حدود العلوم، فحفظوا الأمهات والأصول..”، وإذا كان التثبت من الرواية من أهم ما كان ينظر فيه، فإنّ المحقق في العصر الحديث لا يكتفي بذلك، إذ أصبح عليه عبء امتحان الرواية التي تصل إليه في شكلها المخطوط، من خلال مقارنتها بمثيلاتها، ثم محاولة تقليب بعض وجوهها، وإخضاعها للمناقشة والتفسير والنقد، وتطبيق أحكام الرفض والقبول والإنكار عليها، ثم النظر في القيمة العلمية لتلك المرويات والموروثات، وتفسير المعاني والألفاظ، والأخذ بمناهج البحث الحديثة ووسائله لتقريب النص من المتلقي، فأصبح عليه واجب النقد والرفض والقبول، كما أنّ عليه حقّ الانتقاء والتوضيح والتعليق بالإضافة إلى تحليه بصفات تتعلق بالقدرة العلمية والفكرية، والدراية بالفنون الموروثة والعلوم كافة، كما أنّ عليه التحلي بالصبر وسعة الاطلاع وقوة الذاكرة. فتحقيق النصوص يحتاج إلى يقظة علمية كبيرة.

وكنا في مقالنا السابق قد تناولنا السيرة الذاتية لشيخ المحققين عبدالسلام هارون، ورحلته مع التحقيق منذ نعومة أظافره إلى أن توفاه الله، وكنا قد أشرنا أيضاً إلى أنه لم يحظَ أحد في التراث العربي سطراً إلا وللعالم الجليل بصمة فيه، ويندر أن يتعامل أحد مع المصادر العربية دون أن يستعين بمصدر من تحقيقات الشيخ الجليل؛ فقد قدم للمكتبة العربية كتباً قيّمة محققة ومدققة تعد مرجعاً لكل طالب علم ومهتم بهذا التراث، فهو محقق بارع لكتب التراث، قادر على فكّ رموزها، وقراءة طلاسمها، ومفكر متوهج العقل، ومثقف واسع الاطلاع.

الأستاذ هارون هو شيخ المحققين وعميد المؤلفين عن جدارة واستحقاق، لقاء ما أعطى وأسدى وقدم للمكتبة العلمية من كنوز وعطاءات فريدة متميزة، أنفق فيها جهده ووقته على مدار ستين عاماً من الزمان بدأب ونشاط لا يعرف الملل ولا الكلل، كان عالماً فاضلاً، وتقياً ورعاً رشيداً.

وأشرنا في مقالنا السابق أن شيخ المحققين ترك إرثاً ضخماً وآثاره الأدبية واللغوية كثيرة تصل إلى زهاء 115 كتاباً أهّلته لعضوية مجمع اللغة العربية في القاهرة والحصول على عدد من الجوائز العالمية، ومن أهم تلك الكتب التي حققها:

أولاً: مكتبة الجاحظ التي عني فيها بإخراج مؤلفات أمير البيان العربي في القرنين الثاني والثالث الهجريين، أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وقد أخرج من هذا النوع كتاب الحيوان في سبعة أجزاء إخراجاً دقيقاً رآه مجمع اللغة العربية أهلاً لأن يمنح مخرجه الجائزة الأولى، وكتاب البيان والتبيين، وكتاب العثمانية، وكتاب رسائل الجاحظ، وقد أخرج خمساً وأربعين رسالة.

ثانياً: معاجم لغوية، وقد أخرج من هذا النوع معجم مقاييس اللغة لابن فارس في ستة أجزاء، ولجنة المعجم الكبير في المجمع تولي هذا الكتاب عناية خاصة، كما شارك في إخراج صحاح العربية للجوهري في ستة أجزاء، وفي أجزاء من كتاب تهذيب اللغة للأزهري فأخرج منه الجزأين الأول والتاسع، وقد أسند مجمع اللغة العربية إليه الإشراف على طبع المعجم الوسيط فقام بهذا العمل قياماً محموداً.

ثالثاً: كتب نحوية ولغوية، وقد عني من هذا النوع بإخراج كتاب سيبويه في خمسة أجزاء، وهمع الهوامع للسيوطي الجزء الأول بالاشتراك مع د. عبد العال سالم مكرم، وخزانة الأدب للبغدادي في ثمانية أجزاء، والاشتقاق لابن دريد في جزأين، ومجالس ثعلب للإمام أبي العباس ثعلب في جزأين وفاز هذا الكتاب بالجائزة الأولى لمجمع اللغة العربية، وكتاب أمالي الزجاجي، وكتاب مجالس العلماء للزجاجي.

رابعاً: المجموعات الشعرية، وقد عني من هذا النوع بشرح ديوان الحماسة في أربعة أجزاء، وشرح القصائد السبع الطوال، والأصمعيات للأصمعي والمفضليات للمفضل الضبي بالاشتراك مع الشيخ أحمد شاكر، وهمزيات أبي تمام.

خامساً: الكتب التاريخية، وقد عني من هذا النوع بإخراج كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم، جمهرة أنساب العرب لابن حزم.

سادساً: الفهارس، وقد عني من هذا النوع بفهارس المخصص لابن سيده، وفهارس معجم تهذيب اللغة للأزهري، وفهارس خزانة الأدب للبغدادي، ومعجم شواهد العربية.

سابعاً: ألف كتباً وهي: تحقيق النصوص ونشرها، والميسر والأزلام، والألف المختارة من صحيح البخاري، والتراث العربي، وتنبيهات وتحقيقات، وتهذيب الحيوان، وتهذيب سيرة ابن هشام، وتهذيب إحياء علوم الدين، والأساليب الإنشائية في النحو العربي.

ثامناً: بحوث ومقالات، نشر عدداً من البحوث والمقالات في المجلات والصحف العربية، منها: مكتبة الجاحظ في صحيفة دار العلوم عام 1943م، فلسفة الأخلاق في الإسلام في مجلة المقتطف عام 1945م، وكليلة ودمنة “نقد وتعليق” في مجلة الرسالة 1954م، وإحياء التراث وما تم فيه في مجلة المجلة عام 1966م، وحول تيسير النحو في مجلة البيان الكويتية عام 1967م، وإحياء التراث وأثره في لغتنا المعاصرة في مجلة المجمع. 

ذكر الأستاذ هارون أنّ متابعة النقد لما يظهر محققاً من كتب التراث كان له أثر كبير في تقويم المنهج واستقامته، وأشاد بجهود كل من: الأستاذة الدكتورة عائشة عبد الرحمن في نقد طائفة كبيرة من منشورات التراث نقداً منهجياً وتوجيهياً، كما أشاد بجهود الأستاذ حمد الجاسر والأستاذ السيد الصقر، ومحمد عبد الغني حسن، وشوقي ضيف، في نقد منشورات التراث، وكان لهارون جولات طويلة في الحركة النقدية التي لا بد من استمرارها للإسهام في تقويم الأخطاء والمناهج المنحرفة، والرقابة الواجبة للحفاظ على هذه الأمانة الغالية.

وتميز هارون بنقده البنّاء القائم على أسس علمية سليمة، ومن مجالات نقده: نقد المنهج، والتحقيق، والضبط ،الحواشي، التعليقات، النُسخ، مثل نقده لكل من: كتاب كليلة ودمنة: قام بنشره وتحقيق مواضع الشبهة فيه والحكم عليها، ومجموع رسائل الجاحظ، فبين الرسائل الأربع وعدد صفحات كل رسالة، وماذا تناولت، ثم جوانب القوة في عمل الناشرين من أن لهما فضل السبق إلى نشرها، وتمكين الأدباء من تناول ما فيها، والمنهج العلمي الصحيح في النشر، واستحداثهما طريقة في التعليق على النصوص، ومجلة الأديب “العدد الخاص بأبي العلاء” تناول ما جمعته هذه المجلة من عناوين تنتظم موضوعاً واحداً عن أبي العلاء فبين جوانب القوة في العدد، فلسفة الأخلاق في الإسلام وصلاتها بالفلسفة الإغريقية، حول ديوان الشريف المرتضى، وديوان البحتري.

ولعل من أهم ما حقق هارون من كتب التراث العلمي العربي إن لم يكن أهمها على الإطلاق في مجال النحو واللغة هو كتاب (الكتاب) لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الملقب بسيبويه، وهو أحد أهم مؤلفات اللغوي البصري سيبويه ويعتبر أول كتاب منهجي ينسق قواعد اللغة العربية ويدونها وقال عنه الجاحظ أنه “لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله”، وكان كتاب سيبويه لشهرته وفضله علَماً عند النحويين، وكان كتاب سيبويه منذ تأليفه موضعاً لمراجعة العلماء، منهم من يشرحه ومنهم من ينظم ترتيب أبوابه، ومن هؤلاء ابن السراج الذي ألَّف كتاب الأصول، وقد جمع فيه أصول علم العربية، وأخذ مسائل سيبويه، ورتَّبها أحسن ترتيب، كما أنه شرح كتاب سيبويه، هذا الكتاب يعتبر مرجع من المراجع المهمة في اللغة العربية، وهو صورة لآخر ما وصل إليه التقدم العلمي في النحو في أواخر القرن الثاني الهجري، وهو ثمرة الجهود المتصلة في تلك المادة منذ بدأها أبو الأسود الدؤلي.

ولمن يريد الإبداع في هذا العلم، لا بد له من قراءة سير العلماء، الذين وضعوا العلوم جميعها، وعندما يقع اختيار شيخ المحققين على كتاب سيبويه، هذا يعني أنه كتاب بالغ الأهمية، مع الإشارة إلى أن المستشرقين يقرؤون هذه الكتب ببالغ الأهمية.

 فقام شيخ المحققين عبد السلام هارون بعبء تحقيق الكتاب معتمداً منهجية تمثلت بأن يبدأ بتحقيق اسم المؤلف، ثم تحقيق اسم الكتاب، وبيان تاريخ نشر الكتاب، وتحقيق شواهده، إضافة إلى التعليقات والتوضيحات والإحالات والحواشي، فقد بدأ العمل في الكتاب بمقدمة بليغة جداً، فيها من الفوائد الكثير؛ ولقد اتبع منهجية دقيقة في تحقيقه هذا حيث عمد إلى ذكر اسم المؤلف وكنيته ولقبه، ووضح أصل هذا اللقب، ومن لقب به، وشيوخ المؤلف وأقرانه وتلاميذه، وذكر أهم المناظرات التي جرت بين المؤلف وغيره من العلماء، وبعض الأقوال التي قيلت فيه. ثم بين أصل التسمية، وتاريخ تأليفه، ومادته، وسند الكتاب، وأسلوبه، وأثره في نحو الكوفيين ونحو الأندلسيين والمغاربة، كذلك بين أثر الكتاب في التأليف النحوي, إضافة إلى من شرحه من العلماء، ومن شرح مشكلاته ونكته وأبنيته، وممن شرح شواهده, وممن ألف في الاعتراض عليه، وممن اختصره أو اختصر شروحه. ثم تناول تاريخ نشر الكتاب وطبعاته ومعلومات عن نسخته.

وتوصل البحث بعد الدراسة إلى أن هناك نسخاً لهذا الكتاب هي أوثق من النسخ التي اعتمدها المرحوم هارون، فهناك ثلاث نسخ في تركيا، ورابعة في جامعة برنستون بالولايات المتحدة، فضلاً عن الكم الهائل من المخطوطات التي أحصاها فؤاد سزكين، حيث بلغت 66 نسخة، كما تجمع عند أمبير جنيفييف ( Imbert Genevieve)، وهي باحثة فرنسية بالمركز الوطني للبحث العلمي بباريس 77 نسخة من كتاب سيبويه، واكتشف أخيراً في إحدى زوايا المغرب الأقصى نسخة أخرى ليصل عدد نسخ الكتاب المعروفة حتى الآن 78 نسخة.

وكما هو ملاحظ من النسخ التي اعتمدها هارون معظمها لا تصلح لغير الاستئناس فهي في مجملها إمّا مجهولة الناسخ، أو عارية من تاريخ النسخ أو أنها حديثة العهد، أو أنها بخط حديث، أو أوراق متناثرة الانتفاع بها جد عسير كما ذكر ذلك هارون نفسه، أو أنها مبتورة. ومع هذا اعتمدها وبذل فيها جهداً غير عادي بتفكيك رموزها، وتوضيح طلاسمها. مع أن هذا يخالف منهجه الذي نص عليه في كتابه (تحقيق النصوص ونشرها) فقد ذكر أنّ الباحث عليه الاعتماد على قدم التاريخ في النسخ المعدة للتحقيق ما لم يعارض ذلك اعتبارات تجعل بعض النسخ أولى من بعض في الثقة والاطمئنان، كصحة المتن، ودقة الكاتب.

يذكر عبد السلام هارون أن كثيراً من الشواهد المنسوبة في الكتاب، وهي نحو ألف شاهد، إنّما هي من نسبة أبي عمر الجرمي، والنادر منها ما يستطيع الباحث أن يعرف أنّه من صلب الكتاب. فالجمهور الأعظم من نسبة الشواهد إنّما هي للجرمي الذي ذكر أنّ في كتاب سيبويه ألفاً وخمسين بيتاً. فأمّا الألف فقد عرفت أسماء قائليها فأثبتّها، وأمّا الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها”، ومعرفة الجرمي لأسماء القائلين لا تتعارض مع وجود بعض النسب الأصلية في الكتاب، وأنها مما روى سيبويه عن شيوخه.

وظهر في البحث أن العبارات التي كان يذكرها شيخ المحققين في الحاشية للتدليل على الشاهد المجهول القائل كانت على النحو التالي: عبارة “هو من أبيات سيبويه الخمسين”، أو عبارة “البيت من الخمسين التي لا يعرف قائلها”، أو عبارة “هو من الأبيات الخمسين”، أو عبارة “لم يعرف قائله”، أو عبارة “لم أجده في غير الكتاب”، أو “لم أجد هذا البيت في غير سيبويه”، أو “لم أجد له مرجعاً”، ويقصد لم يعرف قائله، وهذا يدل على العبث الذي لحق النسخ التي اعتمدها هارون في تحقيقه هذه الطبعة.

هذه لمحة بسيطة من تاريخ حافل وطويل في تحقيق كتاب سيبويه لشيخ المحققين عبدالسلام هارون، اقتصرت فيها على منهجيته في نشر الكتاب، وطريقته في الشواهد الشعرية، مع الإشارة إلى ما وقع من تحريف في الكتاب وتصويبه.

ومهما يكن من أمر، فإن شيخ المحققين عبدالسلام هارون عمل بكل جد واقتدار من بداية أول عمل له وهو ابن ستة عشر عاماً إلى أن وافاه الأجل في السادس عشر من أبريل 1988م، بعد عمل دؤوب أمضاه مع كتب التراث العربي والإسلامي، فترك وراءه كنوزاً لا تنضب وغذاء فكرياً لا يفنى وستبقى خالدة تحمل اسمه على مرّ العصور.

 

 

 

 

________________

(*) كاتب ومفكر كويتي.

Exit mobile version