كيف انقلب طه حسين من النقيض إلى النقيض؟ وما أبعاد المؤامرة؟

 

كانت امرأة بحجم المؤامرة.. وذكاء المؤامرة.. وحبكة المؤامرة.. ونعومة وقسوة المؤامرة في آن واحد.. تلك هي سوزان برسو (1895 – 1989م) التي عرفت فيما بعد باسم سوزان طه حسين، التي تمت تغطية مؤامرتها الكبرى حتى بعد رحيلها، حين نشرت جريدة «الأهرام» القاهرية نبأ وفاتها، يوم الخميس 27 يوليو 1989م، عن عمر ناهز 94 عاماً، ونشرت «الأهرام» – كذباً- أنها قد أعلنت إسلامها بعد زواجها من عميد الأدب العربي د. طه حسين، وتركت باريس لتعيش في القاهرة.

في حين يؤكد كل من عرف طه حسين، وعلى رأسهم سكرتيره الخاص د. محمد الدسوقي، أستاذ الشريعة الإسلامية، أن سوزان لم تعلن إسلامها بعد زواجها من العميد، ولا قبله ولا في حياته، ولا بعد مماته، بل ظلت على عقيدتها المسيحية إلى وفاتها، وكانت تذهب كل يوم أحد إلى الكنيسة، وما كانت تتخلف عن هذا إلا لضرورة قاهرة، كما كانت تستقبل كل أصدقائها من المصريين الذين يحافظون على زيارتها من المسيحيين، إضافة إلى بعض المسلمين الذين غلبت عليهم الثقافة الفرنسية.

طه حسين تزوج سوزان برسو على مشروطية عمها القسيس

وتؤكد اللوحات الزيتية التي كانت تزين جدران بيت طه حسين «رامتان» أنها ذات طابع فرنسي خالص في الفن، ولم يكن للطابع العربي أو الإسلامي أو حتى الفرعوني، أي وجود في هذه اللوحات(1)

ومع هذه الزوجة المسيحية المتعصبة، والسكرتير الأول الأشد تعصباً لمسيحيته فريد شحاتة، أصبح طه حسين واقعاً بين حصارين، ورهيناً لمحبسين، فوق المحبسين؛ ذلك أنهما (سوزان، وفريد) لم يدخلا حياة طه حسين من فراغ، ولم تلق بهما الأيام بين يديه جزافاً؛ فيتخذ من هذه زوجة، ومن هذا سكرتيراً.

فسوزان التي كان عمها قسيساً رفضت طه حسين في البداية عندما تقدم للزواج منها بعد ما صارحها بحبه لها؛ فعلى الرغم من أنها كانت تقرأ له، وتعطف عليه، وتعينه، وقد تعلق بها قلبه ووجدانه اللذان يحس بهما في غربته التي عاشها في باريس (طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام، ص32)، فقد كانت بالنسبة له، على حد قوله: «الملاك الذي أغدق عليَّ من الحنان والرعاية ما أغدق»، إلا أنه كان بالنسبة لها «أجنبياً، ومسلماً، وأعمى».

عندئذ تدخل عمها القس المتشدد الواعي؛ حيث رأى بعينه التنصيرية النافذة في طه حسين مشروعاً يصعب التضحية به، فأقنع سوزان بتبني هذا المشروع الذي يجب غرسه على ضفاف النيل(2).

وبعد نزهة منفردة، قضاها ذلك القسيس مع طه حسين، أقنع ابنة أخيه سوزان بالزواج من طه حسين، وأقرت الزوجة بعد ذلك أنه ظل يردد حتى النهاية: «لقد كان عمك القسيس أحب رجل إلى نفسي»(3).

مع الزوجة المسيحية المتعصبة والسكرتير الأول الأشد تعصباً أصبح حسين واقعاً بين حصارين

وكان لهذا الزواج أثره الانقلابي في فكر وحياة طه حسين، في فترة تألقه العلمي والفكري، وسط هالة علمية ملؤها الضجيج والعجيج الاستشراقي، الذي بهر الرجل وملأ أذنيه طبلاً داوياً، حتى أدار رأسه وطرحه أرضاً.

وأما ذلك السكرتير المسيحي القبطي فريد شحاتة الذي انقلب على طه حسين وفضحه بعد موته، فقد كان منتدباً من قبل «الجيزويت»؛ ليكون العين الباصرة، والحاسة الرقيبة لطه حسين، وكان لا يتحدث معه إلا بالفرنسية، ولا ينادي ابنه وابنته إلا باسميهما الفرنسيين حيث كان مؤنس هو «كلود»، وأمينة هي «مارجريت»(4).

هل كان العميد محاصراً؟

ولكن، هل كان طه حسين بكل ثقافته وخبرته وذكائه وحكمته من الاستسلام بمكان حتى أسلم نفسه أسيراً حسيراً بين يدي هذه السيدة التي لا تحب دينه ولا لغته حتى النفس الأخير؟

وهل كان دين طه حسين هيناً عليه ليكون في كل أسبوع، على موعد يوم الأحد، إما لذهاب زوجته إلى القس والكنيسة، أو لإتيان القس إلى بيته، وتحويله إلى كنيسة خاصة؟

وما المقابل الذي يضطر طـه حسيـن إلى الخنوع والركوع أمام هذه السيدة التي ظل يقول فيها طول عمره: «لقد قرأت أنا وهي الأدب الكلاسيكي الفرنسي، وعاونتني في دراسة اللغة اللاتينية، وفتحت أمامي آفاقاً فكرية، وأثرت في ثقافتي، وأدبي تأثيراً واضحاً(5)؟

تلك الزوجة (سوزان) التي كان عمها القس الماكر، قد أقنعها من الزواج من ذلك (الأجنبي، الأعمى، المسلم) بعد ما اشترطوا عليه ما اشترطوا، ما كانت سوى عاملة على صندوق حلاقة بمحل خدمة في الحي الجامعي بباريس.

سوزان عاشت حياتها كلها مسيحية متعصبة تذهب كل أسبوع إلى الكنيسة أو تأتي بها إلى البيت!

لكنها كانت شِصاً حاداً أنشب القس الواعي إحكامه في خيشوم طه حسين، وظلت سوزان تمسك بطرفه طوال حياة الرجل، في الداخل والخارج، في إصرار واضح وعجيب؛ لكي تجتاله من لغته وأهله وحضارته ودينه، إلى لغتها وأهلها وحضارتها ودينها، وفق مشروطية عمها القس العتيد.

تزوج طه حسين من زوجته الفرنسية سوزان برسو في عام 1917م، وكان قد لقيها أول مرة في «مونبلييه»، في 12 مايو 1915م، عقب ابتعاثه إلى فرنسا عام 1914م للدراسة بجامعة «السربون»، وذلك بعد حصوله على أول دكتوراة من الجامعة المصرية عام 1914م، بعد تمرده على الدراسة بالأزهر الشريف، وهناك حصل على الدكتوراة من السوربون عام 1917م عن رسالته «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية»، كما نال إجازة الآداب عام 1917م والدبلوم العالي في التاريخ القديم، وأجاد اللغات اللاتينية واليونانية والفرنسية.

ولكن رفيقه بالبعثة د. محمد نجيب البهبيتي يطلق إشارة حمراء بخصوص حقيقة الحياة العلمية لطه حسين، فيقول: لم يكن أمام التبشير أثمن من هذه اللقطة النادرة القابلة للتكيف العلمي على أية صورة تشكل لها، فقام ببعث طه حسين ليصنع هناك تحت أعينهم، وبُعِث رغم أنف الجامعة، كما أن رسالته رُفِضَت لأنه لم يكن قد اجتاز مرحلة التعليم الفرنسي، واعترف في مذكراته بأن السؤال الذي وجــه إليه في امتحان الليسانس لم يكن في موضوع البحث، وإنما كان في الإمبراطورية الأموية، ولم يخف أن الفضل في هذا الانحراف عن الاختبار في موضوع البحث والشهادة -وهو التاريخ الروماني- يرجع إلى فضل تلك الورقة التي قدمتها امرأته من القسيس إلى لجنة الامتحان(6).

وبخيوطها الحريرية التي تقتل بنعومة وحدة بالغة، عاشت هذه الزوجة الفرنسية وهي محتفظة بخصوصيتها الدينية والفكرية والثقافية من أول يوم حتى آخر يوم في حياته، فلم تتنازل قيد شعرة عن ذاتها ومكوناتها لحساب الشيخ طه حسين، الذي بُهر وسُحر، بكل ما لدى الغرب الذي يجب أن يسر القلب، حتى إنه قال قولته المشهورة: «يجب أن نأخذ كل ما لدى الغرب؛ ما يحمد منه وما يعاب» (مستقبل الثقافة في مصر، طه حسين).

بالإضافة إلى استلاب حسين تم استلاب ابنه وابنته وتجنيدهما كإحدى أهم حلقات المؤامرة

يقول د. محمد الدسوقي، السكرتير الثاني لطه حسين بعد فريد شحاتة لمدة عشرين عاماً: «كان طه حسين يتمنى أن يصل أقاربه ببعض الصدقات، ولكن سوزان كانت تأبى عليه ذلك، وكثيراً ما كانت تؤنبه بكلمات قاسية، يحاول هو أن يمحو آثارها التي تبدو عليه وعلى وجهه، وأعصابه وطريقة كلامه، ولكنه كان يستحلفني سراً أن أكتم عنه، وأستر عليه، ويعطيني بعض هذه المظاريف الخاصة، لكي أقوم بأداء هذه الأمانة عنه»(7).

وقد أكد ذلك د. الدسوقي في مقابلة تلفزيونية لي معه على قناة «أزهري» في حلقات برنامج «للتاريخ» وآية ذلك السلطان القاهر، لهذه الزوجة (المؤامرة) التي أحكمت قبضتها على عقل وفكر وسلوك وحركة وقلب ودين طه حسين، تتجلى في ولاء وانتماء أبنائها من طه حسين؛ أمينة التي أصرت على تسميتها «مارجريت»، ومؤنس الذي أطلقت عليه «كلود»، وقد نال درجة الدكتوراة من فرنسا عن تأثير الآداب الإسلامية في الأدب الفرنسي، ويقال: إنه تنصر، ومات نصرانياً في فرنسا(8).

وإلى جانب استلاب طه حسين تم استلاب ابنه وابنته، وتجنيدهما بكل تسلط وإصرار، كإحدى أهم حلقات المؤامرة وأكثرها آثاراً وأضراراً.

 

 

 

 

 

___________________________________________________

(1) مع العميد في ذكراه، د. محمد الدسوقي، القاهرة، دار المعارف، سلسلة اقرأ، 2013م.

(2) طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام، د. محمد عمارة، هدية مجلة الأزهر، القاهرة، ذو القعدة 1435هـ/ سبتمبر 2014م.

(3) معك: سوزان طه حسين، ترجمة بدر الدين عروركي، مراجعة محمود أمين العالم، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009م، ص24.

(4) أنور الجندي، طه حسين، حياته وفكرة، في ميزان الإسلام، دار الاعتصام، القاهرة، بدون تاريخ، ص103.

(5) مع العميد في ذكراه، مرجع سابق، ص30.

(6) أفرد د. محمد نجيب البهبيتي كتاباً ضخماً، بلغت صفحاته 660 صفحة، من القطع الكبير، أخلصه كاملاً للرد على سموم طه حسين «المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين»، دار الثقافة، المغرب، 1988.

(7) طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام، ص104.

(8) المرجع السابق، ص11.

Exit mobile version