النبوة ثورة شاملة

الثورة هي التغيير الشامل والكلي في المجتمعات على كافة المستويات والأصعدة.

ولا تقبل الشعوب والأنظمة التغيير بسهولة ويسر، بل تنظر إليه بعين الريبة؛ فإلف الأوضاع التي كانوا عليها -حتى وإن لم تكن تعجبهم- مرضي عنها، عن استقبال أمر جديد لم يألفوه، ولم يعرفوا أبعاده، ويخالف أو يصادم ما اعتادوا عليه من أفكارهم وأنماط حياتهم ومعتقداتهم ونظمهم السياسية ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء: 74].

وقد يصل إلف العادات والتقاليد والنظم إلى حد التقديس، ويكون مجرد الاقتراب منها، أو محاولة تصحيحها أمرًا منكرًا مستقبحًا؛ بل إن الأهواء تصير دينًا معبودًا.

فهل كانت عبادة الأصنام إلا اتباعًا للهوى ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: 23]؛ يقول الكلبي: “وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرًا من حجارة الحرم؛ تعظيمًا للحرم، وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمنًا منهم بها، وصبابة بالحرم، وحبًّا بها، وهم بعدُ يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام.

ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره؛ فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم”([1]).

وتصير آراء الرجال حكمًا وتشريعًا، قال -تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا﴾ [التوبة: 31].

والنبوات ثورات في حقيقتها وجوهرها؛ فالأمم دائمًا ما تنحرف عن الطريق القويم بسبب الأهواء والجهل والانقسام والتفرق شيعًا… إلخ، فيرسل الله -تعالى- لها من يصلح لها المسار، ويقوّم المعوج.

فينبري الملأ للطعن في الرسول والرسالة، قال ورقة بن نوفل للرسول الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم: “لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ”([2]).

ويمكرون للنيل من الرسول والرسالة ليل نهار ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ [إبراهيم: 46].

ويعجبون من البدهيات ويناهضونها ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: 5].

ويحرضون العامة على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويغرون به سفهاءهم، وبدلاً من التخلية بين الرسول والناس، يقفون بينه وبين الناس.

وتقوم الحروب والعداوات والمخاصمات.

وتبدأ بالملاسنات وتنتهي بالمقاتلة.

قال -صلى الله عليه وآله وسلم- لقريش: “يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش؟ والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله له، أو تنفرد هذه السالفة”([3]).

وقد يصل بهم الأمر إلى قتل الرسول كما فعل بنو إسرائيل مع بعض أنبيائهم ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [البقرة: 61].

وقد يظهر بعض الأنبياء على أقوامهم ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 71].

 

لقد كانت النبوة ثورة على عبودية الإنسان للإنسان ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 22].

لقد كانت ثورة على عبودية الإنسان للشيطان ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يس: 60].

لقد كانت ثورة على عبودية الإنسان للمال “تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ”([4]).

لقد كانت ثورة على عبودية الإنسان للهوى ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26].

لقد كانت ثورة على عبودية الإنسان للدنيا “كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ”([5]).

لقد كانت ثورة على الطبقية ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾ [هود: 27].

لقد كانت ثورة على الجهل ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1].

لقد كانت ثورة على الظلم “يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا”([6]).

لقد كانت ثورة على الطغيان ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [طه: 24].

لقد كانت ثورة على التشريعات الفاسدة ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ﴾ [الأنعام: 57].

لقد كانت ثورة على الفساد والإفساد في الأرض ﴿فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ﴾ [هود: 116].

“إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، ومن العبودية لهواه وذلك بإعلان ألوهية الله وحده -سبحانه- وربوبيته للعالمين.

إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها”([7]).

 

([1]) كتاب الأصنام، ص(6).

([2]) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في “بدء الوحي”، ح(3) من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها.

([3]) جزء من حديث أخرجه أحمد في “مسنده”، ح(18930) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وقد حسّن إسناده شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”.

([4]) جزء من حديث أخرجه البخاري في “الجهاد”، باب: “الْحِرَاسَةِ فِي الْغَزْوِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”، ح(2887) عن أبي هريرة -رضي الله عنه.

([5]) أخرجه البخاري في “الرقاق”، باب: “قَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)”، ح(6416) عن ابن عمر -رضي الله عنهما.

([6]) جزء من حديث قدسي طويل أخرجه مسلم في “البر والصلة والآداب”، باب: “تَحْرِيمِ الظُّلْمِ”، ح(2577) عن أبي ذر -رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم فيما روى عن الله -تبارك وتعالى.

([7]) الظلال، (3/1433) باختصار.

Exit mobile version