أحبك يا ربي

 

بين المخلوق والخالق سبحانه وتعالى علاقة تعظيم وإجلال وخوف وحب، حب من الله تباركت أسماؤه لخلقه، وحب من الخلق لربهم عز وجل.

ومع إثبات هذه المحبة المتبادلة في القرآن الكريم في قوله تعالى: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (المائدة: 54)، إلا أن البعض صعب عليه تصور هذه العاطفة الشريفة من المخلوق للخالق؛ لأن الحب أسيء فهمه واستخدامه كثيرًا وخوفًا من سوء الفهم فسر هؤلاء المحبة الموجودة في الآية بأنها الطاعة.

وللتخلص من سوء الفهم للمحبة بين المخلوق والخالق لا بد أن نراجع النصوص الشرعية، فنجد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: “أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ” (مسند الإمام أحمد).

ويصور الإمام الشعبي المحبة بين الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَوَلَدِي وَأَهْلِي وَمَالِي، وَلَوْلاَ أَنِّي آتِيكَ فَأَرَاكَ لَظَنَنْتُ أَنِّي سَأَمُوتُ، وَبَكَى الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا أَبْكَاكَ؟”، فَقَالَ: ذَكَرَتُ أَنَّكَ سَتَمُوتُ وَنَمُوتُ فَتُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَنَحْنُ إِذَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ كُنَّا دُونَكَ، فَلَمْ يُخْبِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً {69} ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً) (النساء: 69)، فَقَالَ: “أَبْشِرْ” (سنن سعيد بن منصور وشعب الإيمان للبيهقي).

ويصور النبي صلى الله عليه وسلم المحبة بين المسلم والمسجد حين يجعل من بين السبعة الذين يظلهم الله في ظله “وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ” (صحيح البخاري)، وعند ابن حبان في صحيحه: “إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ”، رأينا صورة من صور محبة النبي صلى الله عليه وسلم لربه تعالى وأخرى لمحبة الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وثالثة لمحبة المؤمنين لبيت الله، فكيف لا نتصور المحبة بين المخلوق والخالق!

ولا بد كذلك من إدراك معنى الحب ومجالاته، فحب الله تعالى وحب نبيه صلى الله عليه وسلم وحب الصالحين من بداية الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم إلى يوم القيامة، وحب الخير والحق والجمال، وحب الناس وحب ما ينفعهم، إذا استحضرنا كل هذه الجوانب الشريفة لعاطفة الحب أمكننا أن نتصور وجود المحبة من المخلوق للخالق سبحانه وتعالى.

واذا أردنا أن نناقش تفسير حب الله تعالى بالطاعة وجدنا أن هناك أقوالًا للنبي صلى الله عليه وسلم لا تساعد على هذا التفسير، ففي دواوين السُّنة ما يدل على أن بعض العصاة يحبون الله تعالى، وليس هذا الحكم حكم عالم أو صالح، بل حكم النبي صلى لله عليه وسلم لرجل تكررت منه المعصية، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: أنَّ رَجُلاً كَانَ عَلَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُه عَبْدَالله، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِماراً، وَكَانَ يُضْحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ في الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْماً، فَأمَرَ بِهِ فَجُلِدِ، فَقالَ رَجلٌ مِنَ القوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “لا تَلْعَنُوهُ، فَوَالله مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحبُّ اللهَ ورَسولَهُ” (صحيح البخاري)، فهذا الرجل الذي ارتكب كبيرة وتكرر منه ارتكاب الكبيرة عدة مرات ما زال في قلبه مكان لحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فهناك محبة لله تعالى مع المعاصي المتكررة، وهذه الحادثة مع غيرها لا تسمح لنا أن نفسر محبة الله تعالى بأنها طاعته.

والذي دعاهم إلى إنكار أن يكون بين الرب تعالى وبين خلقه محبة هو تصور الأسباب الحسية للحب، وتصور الحب على أنه معنى محسوس يدرك بالحواس الخمس ليس إلا.

وهذا يدفعنا إلى الحديث عن الحب الذي أساسه حسي ويصور في صورة حسية، وبين الحب الذي أساسه روحي ويصور في معان روحية.

الحب الذي أساسه حسي لا يثبت؛ لأن عوامل التغيير تلحق بالإنسان، بل تصيب الجبال والشواطئ مثل عوامل التعرية ونحر الشواطئ، ولذلك فمحبة الحس تزول بعد وقت يطول أو يقصر؛ لأن الصورة التي أحببتها قد تغيرت بمرور الزمن.

أما المحبة القائمة على المعاني التي تقوم بها الروح فتبقى عابرة للزمان والمكان، ومن صور هذه المحبة محبة الأبطال الذين حدثتنا عنهم كتب التاريخ دون أن تذكر ملامحهم أو ترسم صورهم، ومع ذلك نحبهم وندافع عنهم حتى إن هناك معارك فكرية وعسكرية إلى الآن بسبب الدفاع عن مواقف لم نشهدها ولم نكن طرفاً فيها، ولكننا ندافع عن أحد هؤلاء الأبطال لما قرأنا وسمعنا عن صفاته ولما وجدنا في قلوبنا من ميل إليه.

فإذا كنا نحب أناس لم نرهم ولم نر من رآهم ونقدم في سبيل حبهم هذه التضحيات، فكيف يكون حبنا لخالقهم سبحانه وتعالى ومانحهم هذه الصفات التي أحببناهم لأجلها.

وإذا أردنا أن نفكر في أسباب حبنا لله تعالى لوجدناها فوق الحصر، لكن لنذكر شيئاً منها:

فهو سبحانه وتعالى الذي وهب لنا ما نتمتع به في هذه الدنيا، انظر إلى الأطعمة التي نوَّع الله تعالى مذاقاتها المختلفة، وكيف أعد لنا خلايا التذوق على سطح اللسان.

وانظر إلى الأشكال المختلفة وما أودع الله تعالى فيها من جمال وما أعد لنا من جهاز بصري نرى به الجمال في الكون، وانظر إلى الروائح المختلفة وجهاز الشم الذي يدرك ألوف الروائح.

وإذا انتقلنا من النعم التي تدرك بالحس إلى النعم التي تدرك بالروح وجدنا لذة المهتمين بالمعرفة إذا حصلوا على معلومة أو اكتشفوا شيئاً أو تمكنوا من حل مشكلة أعيت البشرية يحصلون على متعة لا تقدر ولا توصف.

ومن النعم التي تدرك بالبصيرة نعمة الإدراك، وهو أحد مقومات النجاح؛ إدراك ما يملك الإنسان من مواهب، وإدراك المشكلات التي تواجهه على حقيقتها، فإذا تمكن من ذلك لا يوجه جهده إلى الجهة الخطأ، ولا يسير في المسار الذي لن يوصله أبدًا.

فكرة اكتشاف المواهب فكرة قامت عليها استثمارات وعلوم، وعندما ندرك مواهبنا نكون بذلك قد وقفنا على أول الطريق الصحيح، والإدراك نعمة من الله تعالى.

ومن النعم المعنوية التي تزيد من حب المؤمن لربه ما يراه إذا تأمل في المخلوقات من إتقان الصنعة التي تبهر أصحاب العقول وتجعلهم يتعلقون بربهم سبحانه، ولعل سائلاً منهم يسأل: إذا كانت هذه المخلوقات الرائعة موجودة لكي يستمتع بها المؤمن والكافر والبر والفاجر، فكيف تكون المخلوقات المخصصة لاستمتاع المؤمنين الصالحين مكافأة لهم على ما قدموه من عمل صالح، وإظهاراً لرضوان الله تعالى عليهم، كيف يكون جمالها وحسنها وكم المتعة بها؟!

ومن النعم المعنوية أيضًا إدراك أن كل ما يتمتع به الناس من الله تعالى ألا يدفعنا ذك إلى حبه جل جلاله، فهو سبحانه الذي وهبها، وهو الذي أعطانا القدرة على التمتع بها، ولو حجب عنا خلايا تذوق الطعام أو شم الروائح الحسنة مثلًا لتعسرت علينا الدنيا.

ومن النعم المعنوية التي تزيد من حب المؤمن لربه معرفة المؤمن بربه وبلطفه وإحسانه وحسن تقديره وتدبيره وفتحه جل جلاله لآفاق الفهم أمام العقول المتدبرة.

وعلى قدر ما نتأمل في حياتنا وفي الكون من حولنا نرى بديع صنع الله تعالى وعظيم قدرته، فتزداد محبتنا له سبحانه وتعالى، ومنا من يتحول حبه إلى رهبة من جلال الله تعالى وعظمته تحول بينه وبين رؤية رحمة الله، ومنا من يتحول حبه إلى رجاء وحسن ظن بالله تعالى يحول بينه وبين رؤية غضب الله تعالى وعقابه، والعدل هو أن يجمع المؤمن بين الرجاء والخوف، فبين خوف ورجاء تعبد نفس حذرة.

Exit mobile version