الشيخ يعقوب القاسمي الهندي في ذمة الله

 

بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي والفكري الإسلامي رَحَلَ عن دنيانا الشيخ الهندي يعقوب الكاوي القاسمي الذي وافته المنيّة بمدينة “ديوزبري” بالمملكة المتحدة، في الساعة الأخيرة من نهار يوم 19 المحرم 1444هـ/ 18-19 أغسطس 2022م عن عمر ناهز 91 عاماً.

انتشر نبأ وفاته عبر وسائل الاتصال الحديثة السريعة في مشارق الأرض ومغاربها، ولم يكد النعي يلامس آذان الأوساط الإسلاميَّة في بريطانيا وسائر البلاد الهندية حتى تلقَّتْه بأسف بالغ وحزن عميق، وأخذ منها الحزن والأسى كلَّ مأخذ، وكان أهالي المدينة وسكانها حزانى وآسفين؛ لأنّها كانت لا تتوقّع هذه المفاجأةَ الأليمة فيما يتعلّق بموته الذي حقاً إذا جاء لا يؤُخَّر؛ فإنَّا لله وإنّا إليه راجعون، رحمه الله رحمة واسعة.

وتعد وفاته رحمه الله خسارة للأمة الإسلامية لا تُعَوَّض؛ حيث كان داعياً كبيرًا بعلمه وقلمه وتدريسه ودماثة خلقه وتواضعه ونبله، وعلماً من أعلام الفكر الإسلامي، ورجلاً شامخاً من رجالات التأريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، وجُنْدِياً في سبيل الدين والدعوة، يدافع عن الإسلام ويدعو إليه، وقد سجّل التاريخ اسمه على رأس قائمة العلماء المتميزين الذين شاركوا في فقه وتوجيه الدعوة للمسلمين في بريطانيا، الذين جاهدوا في سبيل تعزيز عمل جماعة الدعوة والتبليغ في إنجلترا، ومن هنا يظهر تأثيره في قيادة الأوساط الإسلاميَّةَ في بريطانيا إلى الحياة الأكاديمية والعملية.

كان الفقيد عالماً وقوراً يتعمق في التعاليم الإسلاميّة والفقه، وكان جمّ البساطة في جميع أمور الحياة، محترزًا عن الزخارف والمظاهر، متقنًا للعلم ومخلصًا في العمل، مصيبًا في الرأي، واسع الأفق وعميق الفكر، مقدراً للمذاهب، ومحترماً للآراء، ومتجنباً عن الافتراق والتشرذم، غير متعصب لمدرسة، ولا متحيزاً لفئة، وبالجملة فإنه تحلّى بالأخلاق الكريمة، واتصف بالصفات الجليلة التي تستميل القلوبَ وتستهوي النفوسَ، عاش حياة حافلة بالعلم والعمل، واشتغل بتربية المسلمين على خلال من الإيمان والعمل الصالح، وتوفر على القيام بالتعليم والتربية والدعوة والتبليغ، كما أفاد العامة والخاصة بعلمه وعمله وتوجيهاته الدينية.

وامتاز الشيخ رحمه الله بين معاصريه من العلماء والقادة والدعاة بالجمع بين المسلمين، وبين الصلاح والتدين وبين الانقطاع إلى التلاوة والعبادة؛ وبين التواصل الرابح مع المشايخ والعلماء والدعاة والمفكرين الإسلاميين؛ وبين حياته كعالم عامل وحياته كناشط في مجال التعليم والإصلاح، وهذا عمل صعب للغاية إلاّ على من يحالفه التوفيق ويوُلَد مجبولاً على التوفيق بين الاهتمامات الصعبة.

ورغم كبر سنه ظل نشيطاً في مجال التعليم والإصلاح، مشيداً بأعمال جماعة الدعوة والتبليغ وناقداً لها في بعض تجاوزاتها وغلوها وهفواتها؛ فكان مقصدَ الخلق، ومنتهى الدعاة والمصلحين، وكل حريص على تعزيز الصلة بالله؛ فبموته شعر المسلمون في هذه الديار كأنه انحسر عن رؤوسهم ظل سعادة ظليل كان يقيهم بتوفيق الله عز وجلّ الشمسَ المحرقةَ والبردَ القارسَ من الماديّة الجامحة والإخلاد إلى الدنيا والفتن الكثر التي تكاد تلفّ اليوم رقابَ العباد.

نبذة من بطاقته الشخصية

كان الشيخ الكبير العالم الفقيه مولانا يعقوب بن إسماعيل المنشي القاسمي هندي الأصل والولادة، وُلِدَ بوطنه بلدة “كاوي” بمديرية “بروص” بولاية «كجرات» وذلك في 14 المحرم 1350هـ، تعلم مبادئ القراءة في مسقط رأسه؛ حيث تجاوز جميع مراحل الدراسة الابتدائية من القراءة والكتابة في كتاتيب قريته، ثم التحق بدار العلوم الأشرفية العربية الإسلامية في راندير من كجرات، حيث تلقى التعليم إلى المستوى الثانوي من العلماء الكبار، ثم التحق لتلقي الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية دار العلوم/ ديوبند، وتخرج فيها عام 1372هـ/ 1952م حائزًا على شهادة الفضيلة في الشريعة الإسلامية، وكان من أساتذته بها آنذاك العالم الكبير المجاهد الشيخ حسين أحمد المدني، والشيخ العلامة إبراهيم البلياوي، والشيخ إعزاز علي الأمروهي، والشيخ فخر الحسن الديوبندي، والشيخ ظهور أحمد الديوبندي، رحمهم الله تعالى.

حياته التدريسية وخدماته الدينية

بعد إنهاء الدراسة قدّر الله له أن يقوم بخدمة التدريس، حيث كان من العلماء المُؤَهَّلين والأساتذة المُتْقِنِين، وكان له تعمُّقٌ في العلوم الفقهية الشريعة، وبَصَرٌ بالموادّ الإسلاميَّة.

عَمِلَ أستاذًا للمواد الفقهية وأصوله بالمدرسة الشهيرة بالجامعة العربية الإسلامية في كجرات بكلّ طمأنينة ونجاح وانهماك.

وفي 15 رمضان 1385هـ/ 1966م تَوَجَّه الشيخ من مدينته الأمّ وموطنه الأصلي “كجرات” إلى بريطانيا واستوطن “ديوزبري” ومكث هناك إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، وبمرور الأيام في بريطانيا أوجدت نفسه الطموح له أكثر من مجال، فلم تبق نشاطاته مقصورة على ما أسلفناه، فقام بتأسيس مجلس التحقيقات الشرعية البريطانية سنة 1409هـ، وكان عضواً في المجمع الفقهي الإسلامي بجدة، وفي المجمع الفقهي الإسلامي بدهلي.

من مآثره العلمية الخالدة

والجدير بالذكر أنه كانت له عناية خاصة بقضية رؤية الهلال وأوقات الصلاة في بريطانيا وما يجاورها من البلاد والمدن، وكلّما حدث عن هذا الموضوع كشف عن جوانب خفية، وكلّما كتب جلا عن الحقائق القيّمة، وأزال الإشكالات الواردة والشبهات المخيّمة، وقد ألّف رحمه الله كتاباً نافعاً في موضوعات شتي منها: “مبادئ رؤية الهلال وتعيين الشهور القمرية”، و”تحقيق الفجر الصادق والشفق في بريطانيا”، و”تحقيق وقت العشاء في بريطانيا”، و”الشهر الإسلامي ورؤية الهلال في ضوء الشريعة وعلم الفلك”، و”نظرة إلى مراقبة مواقيت الصلاة في بريطانيا”، و”أوقات الصلاة والصيام” (حيث تم فيها تجميع مواقيت الصلاة الصحيحة لإحدى عشرة مدينة من بريطانيا بمساعدة الكمبيوتر)، و”الزواج والطلاق الإسلامي”، و”المكانة الشرعية المتمثلة في تلاوة القرآن الكريم كاملاً بشكل جماعي لغرض تقديم الثواب للميت” وما إلى ذلك من الكتب المهمة في اللغة الأردية.

وقُدِّر له أن يؤدّي نشاطه الديني في أكثر من مجال فانضمّ إلى ركب جماعة الدّعوة والتبليغ، وساهم في توجيه عباد الله إلى حياة الإنابة والتقوى، فقد برز في أعمال الدّعوة والتبليغ، وجهوده في تقوية أعمال الدّعوة والتبليغ في إنجلترا تستحق الثناء، كان يحذر ويناقد من حين لآخر في بعض التجاوزات والزلات لمن يقومون بأعمال جماعة الدعوة والتبليغ.

يفقد الناس كل يوم أناسًا كثيرين؛ فاعتادوا فقدَ الأقارب والأباعد؛ فأصبح الفقدُ شيئًا عاديًّا، لا يثير انتباهًا، ولا يسترعي التفاتاً، ولا يغيّر من رتابة الحياة؛ ولكن بعضَ الناس يمتازون بصفات غالية في حياتهم، تجعلهم يشمخون على الأرض شموخ الجبال، فإذا ماتوا شعر الناس أنهم فقدوا جبلاً شامخًا من الجبال الراسيات. وقد كان شيخنا العلامة يعقوب الكاوي القاسمي من ذلك الطراز الفريد الذي بفقده يشعر الإنسان أنه فقد كلَّ شيء حوله من الزينة والجمال والفضيلة والكمال.

رحل الشيخ إلى رحمة الله تعالى، فأي عبرة لم تسكب أسفاً، وأي قلب لم يتوجع أسى، جزى الله فقيدَ الدعوة الإسلامية عن الإسلام والمسلمين خيرَ ما يجزي عبادَه الصالحين، وتقبّل صالح أعماله وأقال عثراته وأدخله فسيح جنّاته، وألهم جميعَ ذويه ومحبّيه في الدنيا الصبرَ والسلوانَ.

 

 

 

 

 

________________________________

(*) جمعية السلام التعليمية والخيرية بيهار الهند.

Exit mobile version