الدراما الصهيونية والاستغلال السياسي

 

مع بدايات ظهور الشريط السينمائي واختراع الأخوين «لومير» لآلة العرض السينمائي، انتبهت الحركة الصهيونية إلى هذا الاختراع الجديد، واستثمرته في دعم مشروعاتها الفكرية والتوسعية، وتنبه صانعو الصهيونية إلى هذه الوسيلة الجديدة كأداة للدعاية التعبوية القادرة على إعادة بعث شعب تشتت في العالم لمدة 2000 عام على شكل أمة واحدة، فضلاً عن الترويج لمظلومية مفترضة وهو نزعه من أرضه ونفيه منها، وبذلك كان لا بد من الترويج لخرافة حق العودة للوطن المقدس.

نشأ الاهتمام بالسينما بالنسبة لليهود من خلال المؤتمر التثقيفي الصهيوني المنعقد ببازل عام 1897م، حيث أكد في بنده الثالث أهمية الإعلام التثقيفي لخلق «إسرائيل»، ومن هنا برزت ضرورة نشر الروح القومية والوعي القومي بين يهود العالم للاهتمام بالسينما، بعدها قام المخرج «جورج ميليه»، أحد رواد فن السينما، بإخراج فيلم «قضية دريفوس» الذي عرض عام 1899م، مضخماً من حجم الاضطهاد الذي عانى منه اليهود في أوروبا، من خلال موقف صغير عمد المخرج لتهويله ليضع المشاهد أمام قضية إنسانية.

الترويج للخرافة

تطورت إستراتيجية الاستخدام فيما بعد بحيث تم تجنيد السينما العالمية، لدعم فكرة «الوطن الواحد» الذي يضم القومية اليهودية المتخيلة لدى صانعي الصهيونية، وكان لا بد من ربط هذا الوطن بنبوءة مزعومة؛ وهي «أرض الميعاد»، مصحوبة بأكذوبة أخرى تدَّعي أن الأرض بقيت بدون شعب حتى تاريخ الهجرات الحديثة.

فبعد عرض فيلم «قضية دريفوس»، حاول «تيودور هرتزل»، مؤسس الصهيونية العالمية، إنتاج فيلم «أرض الميعاد»، واستمرت المحاولة منذ عام 1899 إلى 1902م، إلا أنه لم يستطع إكمال المشروع، ليظل المشروع متوقفاً حتى عام 1903م عندما أوفدت شركة «أديسون» أحد مصوريها لإنتاج سلسلة أفلام دعائية لصالح نشاطات الوكالة اليهودية بهدف توثيق وصول المهاجرين إلى أرض الميعاد، وتصويرها كأرض خالية من السكان.

مرحلة ما قبل «النكبة» رسخت عقيدة القومية الواحدة واستخدمت فيها الدراما التاريخية المعتمدة على نصوص التوراة

.. وأفلامها غذت فكرة العنف والقوة الذكورية ضد الآخر في سبيل الحفاظ على الذات القومية والأرض

استمرت هذه الموجة من الأفلام حتى انتهاء الحرب العالمية الأولى لتوثق أيضاً هزيمة الجيش التركي، ومشاهد الحرب في فلسطين، إضافة إلى مجموعة من الأفلام التي راحت تحكي مجموعة من قصص العهد القديم «الابن الضال»، «شمشون ودليلة»، وذلك بهدف التأكيد على عقيدة أرض الميعاد.

واتسمت مرحلة ما قبل نكبة عام 1948م بأنها مرحلة ترسيخ عقيدة القومية الواحدة، التي يجب أن تعود إلى الأرض التي وعد الله بها إبراهيم عليه السلام، واستخدمت فيها الدراما والأفلام التوثيقية والدراما التاريخية المعتمدة على نصوص التوراة.

ولكن مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان لا بد من تعديل الرسائل الدعائية وبناء الشخصية الصهيونية القادرة على امتلاك الأرض ومحاربة الأعداء، ولكن كيف سيتم ذلك في ظل استمرار تبعية العقلية اليهودية للغرب، وسقوطها في فخ العبودية للشخصية الغربية التي عاشت قروناً تحتقرها؟

كان لا بد من تأهيل جديد وإنتاج ذكورية يهودية للفرد، فالخطاب الطبي في أوروبا كان دوماً يصم الجسد اليهودي بالخنوثة والمرض والجنون والانحراف الجنسي، وقد ظهرت تلك النزعات في كتابات العديد من الفلاسفة والمفكرين حتى اليهود منهم مثل «فرويد» عضدوا تلك الصورة الذهنية.

بعد إعلان الدولة الصهيونية توجهت الدراما إلى إظهار اليهودي كمساهم في الرصيد الحضاري

توجهت تلك المرحلة من الإنتاج السينمائي الدرامي للشخصية اليهودية وتحديداً للذكر الذي يجب أن يتم تجهيزه ليتحول إلى أداة قتل واستيلاء على الأرض وامتلاكها بالقوة، فكان من أهم أفلام تلك المرحلة فيلم «غداً يوم رائع»، الذي يحكي قصة فتى نجى من «الهولوكوست» لكنه عاجز عن مواجهة الحياة، إلا أنه عندما انتقل إلى فلسطين يصطدم بالأسلاك الشائكة لـ»الكيبوتس» التي يعيش فيها، فيتعامل بعنف معها ومع النباتات والحيوانات ويتعافى بعدها، في إشارة إلى تحطيم كل حواجزه ومخاوفه النفسية.

غذت أفلام تلك المرحلة فكرة العنف والقوة الذكورية ضد الآخر في سبيل الحفاظ على الذات القومية والأرض تمهيداً لبناء الوطن، فالبطل الذكر القوي القاتل هو مراد الأرض، أما الذكر القتيل في المحرقة فهو يستحق ما حدث له لأنه ضعيف، وكان الملاحظ في الدراما من عام 1945 إلى 1948م أنها لا تظهر أي وجود فلسطيني في مشاهد الصراع.

بعد إعلان الدولة

بعد إعلان الدولة الصهيونية، توجهت الرسائل من خلال الدراما السينمائية إلى الخارج، كان الهدف إقناع العالم بهذا الكيان، ونسيان مسمى فلسطين، فركزت هذه المرحلة على إظهار اليهودي كشخص مساهم في الرصيد الحضاري للإنسانية في مواجهة العربي المسلم الهمجي، وكان من أهم أفلام تلك الفترة فيلم «سيف الصحراء» للمخرج «جورج شيرمان»، الذي تناول ميلاد الكيان الصهيوني من خلال قائد سفينة إنجليزي مليئة بالمهاجرين، وعليه إما أن يكون جباناً كالعادة أو أن يصبح بطلاً ويقف بجانب المهاجرين، موجهاً اتهاماً للإنجليز بالتعاون والوقوف مع العرب، وذلك بهدف إبراز الشخصية الصهيونية كبطل يواجه العالم بمفرده من أجل حقه المشروع.

نستطيع القول: إن الفترة من عام 1948 إلى 1967م ركزت على عدم إظهار العرب في صدارة العمل الدرامي، وحولت الصراع الصهيوني مع العرب إلى صراع مع القوى الدولية من أجل إقامة دولتها، فمثلاً فيلم «المشي خلال الحقول»، وهو فيلم حربي لا يقدم مواجهة بين فلسطيني وصهيوني، ولكنه يقدم مواجهة بين العصابات الصهيونية والبريطانيين، فما زالت دعاية الأرض الخالية من الشعب مسيطرة على المشهد خلال تلك الفترة.

الغريب أن تلك المرحلة ورغم مشاركة الكيان في العدوان الثلاثي على مصر، فإنها منعت إنتاج أفلام حربية عن معارك الصهاينة في سيناء، بل تعدى الأمر إلى منعها لفيلم «الطلائع الزرقاء» للمخرج «ثورلد دينكسون»؛ بسبب تناوله لحرب عام 1956م، وتعبيره عن وجهة نظر الأمم المتحدة، ويبدو أن ذلك وفقاً لما ذكره منير الصلاحي في دراسته عن الرواية الصهيونية يرجع إلى أن مصر كانت تواجه ثلاث قوى، منها قوتان من القوى العظمى، وأنها خرجت بنصر سياسي على القوتين.

بعد «النكسة» روجت الدعاية الصهيونية لنسيان القضية الفلسطينية وتقبل وجود الصهاينة كملاك للأرض

«النكسة» والسينما الصهيونية

وضعت الدعاية الصهيونية عدة أهداف للإنتاج الدرامي بعد هزيمة العرب في يونيو 1967م، فكان هدفها الأول الترويج لضرورة نسيان القضية الفلسطينية، وتقبل وجود الصهاينة كملاك أصليين للأرض، باعتبار أنهم أصحاب حق استعادوه، مضيفة إلى رسائلها أن الدولة الصهيونية تقوم بمهمة سلام في المنطقة وتدافع عن مبادئ العالم الحر في منطقة يسيطر عليها الشيوعيون.

وكان تمجيد القوة العسكرية الترويج للجيش الذي لا يقهر سمة تلك المرحلة، عبر عن ذلك جيداً فيلم «سيناء 68»، الذي يصطنع بطولة لثمانية أفراد من جيش الاحتلال يحاصَرون في سيناء وتُدمَّر المدرعة التي تقلهم، ولكنهم يواصلون مقاومة الجيش المصري رغم العطش والجوع، إلى أن يلحق بها جيش الاحتلال وينقذهم، وعلى هذا المنوال نسجت أفلام كثيرة في تلك المرحلة.

 

 

 

 

_______________________________________

1- سمير فريد، مدخل إلى السينما الصهيونية.

2- منير صلاحي، الحقيقة والرواية.

3- أمير العمري، سينما الهلاك.. اتجاهات وأشكال السينما الصهيونية.

4- رؤوف توفيق، سينما اليهود دموع وجنائز.

5- محمد عبيدو، السينما الصهيونية شاشة للتضليل.

6- لينا أبو الحلاوة، الصهيونية تحولات أساطير البطولة، ورقة بحثية.

Exit mobile version