الدراما.. و”تسييس” قضايا الأسرة

 

ليس من المبالغة في شيء أن نعتبر الدراما بمثابة المدفعية الثقيلة التي توجه لتحطيم القيم الأصيلة للأسرة، تلك القيم المستمدة بالأساس من التشريع الإسلامي، فالدراما تصل بسهولة ويسر لجميع الفئات والشرائح العمرية، وتلقى نسب مشاهدة عالية جداً عكس البرامج الفكرية والثقافية التي لا تخاطب إلا النخبة، ولا تكمن أهمية وخطورة الدراما في استهدافها لقطاعات شاسعة فحسب لعدد طويل من الساعات، ولكن منهجية الدراما في توصيل الأفكار أنها تخاطب العواطف الإنسانية أولاً؛ فتنساب الأفكار تتخلل هذه العاطفة.

المشاهد للدراما لا يكون في كامل وعيه، فهو لا يجلس أمام العمل الدرامي يناقش ويحلل وينتقد، بل يشاهد ويتفاعل ويتأثر، والعمل الدرامي الجيد هو ذلك الذي يخترق وعي المشاهد وصولاً لعقله الباطن أو اللاوعي؛ فيرسم صوراً ذهنية غائرة وعميقة وثابتة تقوم بما يشبه البرمجة لشخصية المشاهد ولمنهجيته في التفكير والتعاطي مع القضايا المختلفة.

وإذا تحدثنا عن الدور الذي تؤديه الدراما في التأثير وتوجيه الرأي العام فيما يتعلق بقضايا الأسرة، سنجد التأثير الأقوى على الإطلاق؛ لأنها قضايا تلمس الناس بشكل مباشر ومن ثم يكون التفاعل معها أكثر وقعاً.

الدراما بمثابة المدفعية الثقيلة التي توجه لتحطيم القيم الأصيلة للأسرة

عندما تتجه الدراما لتحطيم قيم الأسرة الأصيلة، فهي تستغل أن هذه القيم اختلطت بعادات ما أنزل الله بها من سلطان، وسلوكيات رديئة تتناقض مع التشريع، وبدلاً من إماطة هذا الأذى النفسي والسلوكي والانتصار للقيم الحقيقية والأصيلة، يتم الخلط والتدليس بهدف النيل من هذه القيم التي تقف كحاجز منيع يحول بين الأسرة والمخطط الأممي الغربي لتفكيكها وتحويلها لأنماط جديدة تنتصر لقيم «الجندر» (النوع الاجتماعي) وتوابعه، هذا المخطط الأممي الذي لا يمثل سوى الوجه الكالح لثقافة الغرب التي يسعى لفرضها باعتبارها قيماً إنسانية عالمية أخرجت قضايا الأسرة من دائرة القضايا الاجتماعية لدائرة القضايا السياسية، حيث نصت المادة (1) من وثيقة إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) على «اتخاذ جميع التدابير المناسبة، بما في ذلك التشريعي منها، لتغيير أو إبطال القائم من القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكل تمييزاً ضد المرأة».

عندما تحولت قضايا الأسرة إلى قضايا سياسية تتخذ جميع التدابير من أجل فرض قيمها الجديدة المغايرة، كان لا بد من استخدام التدابير الثقافية وعلى رأسها استخدام الدراما وتوظيفها لتحقيق هذا الهدف الذي أعربت عنه المادة الخامسة من نفس الوثيقة، حيث نصت في المادة (أ) على تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة والقضاء على أي أدوار نمطية للرجل والمرأة.

كما نصت في المادة (ب) على اعتبار الأمومة وظيفة اجتماعية «فمن الممكن أن يقوم بها الرجل أو المرأة أو المتحول أو العابر جنسياً»، هذه الأفكار الصادمة التي تسعى لها الوثيقة الأممية لا يمكن لأي تدابير تشريعية أن تقوم بها دون تدابير ثقافية، وهذا هو الدور الذي مارسته الدراما باقتدار.

إستراتيجية العمل

«كثير من العسل، قليل من السم، مع الاستمرارية؛ يتحقق الهدف»، هذه هي إستراتيجية القائمين على الأعمال الدرامية الموجهة للأسرة، وبالتدريج يرتفع مقدار السم، ولا بأس بصدمة بين الحين والآخر تكون بمثابة بالون اختبار لقياس مدى تقبل الجماهير لتلك الأفكار السامة، لو أخذنا مسلسل «فاتن أمل حربي» الذي عرض على شاشات التلفاز في رمضان الماضي، نجده يجسد هذه الإستراتيجية بأكبر قدر من الفاعلية، فالمشاهد يتعاطف مع بطلة المسلسل التي تعاني أشد المعاناة مع زوج يعنفها ويهينها ويبخل عليها حتى ينتهي الأمر بالطلاق، وهنا تبدأ العقدة الحقيقية للمسلسل؛ حيث معاناة الزوجة في أروقة محاكم الأسرة حتى تنتزع حقوقها الشرعية من هذا الرجل.

هذا هو العسل الذي يجذب المشاهد من خلال قصة رغم ما فيها من ألم ووجع، فإنها تحدث بالفعل، فمن الممكن أن ترى المرأة نفسها أو أختها أو جارتها مكان البطلة؛ وبالتالي تحدث حالة من التوحد العاطفي معها.

العمل الدرامي الجيد يخترق وعي المشاهد وصولاً لعقله الباطن المخطط الأممي لا يمثل سوى الوجه الكالح لثقافة الغرب التي يسعى لفرضها باعتبارها قيماً إنسانية عالمية

أما السم هنا فهو من النوع الصادم الذي لا يمكن تمريره بسهولة من ذلك النوع الذي يمثل بالون اختبار حقيقياً، فهنا لا يتم شجب العادات المجتمعية أو المجتمع الذكوري أو حتى المطالبة بتغيير قوانين الأحوال الشخصية حتى تتحقق المساواة بين الرجل والمرأة كما تنص الوثائق الأممية، بل إن المؤلف هنا يوجه سهامه مباشرة وبشكل صريح لا يقبل المواراة للتشريع الإسلامي.

المؤلف (إبراهيم عيسى الذي يقاتل لأجل نشر أفكاره تارة من خلال الراوية كما في روايته «رحلة الدم.. القتلة الأوائل»، ثم في السينما كما في فيلم «مولانا»، الآن يتجه للدراما التي تدخل كل بيت، عيسى الذي يقاتل لأجل خلخلة الإسلام من الداخل فيرفض السُّنة النبوية ويكتفي بالقرآن ويرفض أقوال المفسرين والعلماء بل ويحقّر منهم) يعبر عن أفكاره الساقطة بجملة تقولها بطلة المسلسل وتصل لعامة الناس كخلاصة أفكاره: «هو ربنا بنفسه اللي قال كده؟»، أو جملة «مليش دعوة بالفقه»، أو جملة «ربنا اللي قال ولا أنتم؟» (الشيوخ)، «مش محتاجة أدرس علشان أفهم كلام ربنا»، إن المؤلف الذي يدعو لمذهب القرآنيين ظاهراً يريد، كما جاء على لسان البطلة، أن يكون الحكم الشرعي مذكوراً بأدق التفاصيل في النص القرآني، وربما في مرحلة لاحقة يطالب أن يكون باللهجة العامية كما جاء على لسان البطلة!

هذا السفة ليس توقيراً ولا احتراماً لكتاب الله عز وجل بحال من الأحوال، بل استهانة واستهزاء بالغي الوضوح، ولكن البطلة يرتجف صوتها وتتساقط دموعها وهي تهتف بالشيخ الله رحيم وعادل ولا يمكن أن يحرم أماً من أبنائها بعد أن طالبته بآية تقول: «إن الست المطلقة لما تتجوز تسقط عنها حضانة أطفالها»، لأنها دارسة للقانون وموظفة في الشهر العقاري، فهي تريد لائحة واضحة وليس كلام شيوخ وفقهاء لا يرون في المرأة إلا مخلوقاً ناقص العقل.

هذا الحوار وهذا الكلام السمج الذي يقطر جهلاً ويلتحف مشاعر وعواطف يدور على الأقل مع 3 شيوخ، فينحاز لها أحدهم (الشيخ المستنير).

أثار هذا المسلسل لغطاً شديداً أثناء وبعد عرضه وتساؤلات كثيرة لعامة الناس عن الحكم الشرعي ومصادره وعن الفقه وأصوله.. لكن أخطر ما أثاره يتجاوز الأفكار التي طرحت وإنما في الرسائل المبطنة التي وصلت للعقل الجمعي اللاواعي خاصة بالنسبة للنساء، تلك الرسائل التي اختلطت فيها الأفكار بالعاطفة مستغلة حالة الجهل الديني لخدمة قيم فكرية تخدم منظومة تسعى لاستخدام كافة التدابير خاصة الثقافية (وفي القلب منها الدراما) لفرض واقع جديد.

Exit mobile version