سيميائية النغمات المتتابعة على رواية نشأت المصري “اللحن المكسور”

الكاتب والشاعر نشأت المصري

 

أولاً: مقام موسيقي/ مدخل:

بين قوسي القتل بفعل فاعل (الانتحار/ الاغتيال) تدور أحداث رواية “اللحن المكسور” للكاتب الشاعر الكبير نشأت المصري، كعمل فني مكتنز بين أعماله الروائية الاثني عشر التي راوح فيها الكاتب الفنان بين التجريب المغامر، والسرد الشاعر، والحبك والسبك القصصي الحميم، والنثر الفني المغزول من الكلمات والتفاعيل، والإيقاعات والأفكار المتسارعة.. ذلك أن المصري لا ينسى أبداً أنه شاعر، مفكر، مثقف، مهموم بالذات والوطن والإنسان.. حتى إنه يأخذ بأيدينا، ويدخلنا إلى معزوفته الماتعة.. بداية من الإهداء الأسرى الآسر.. إلى أمه.. وزوجته.. أمة الثانية.. وإلى ابنته الرابعة إيمان زكى.. وإلى بطلة الرواية “دلال هاشم”.. ذلك العنقود الأسرى الذي يأخذك حتماً إلى دفء الاستمالة، وحنان العشرة.. ومودة ذوي القربى.

ثانياً: استهلال/ مفتتح:

لم يكن عبثاً أن يأخذنا الكاتب الكبير نشأت المصري بالأحضان المفعمة بالحزن الشفيف، والهدهدة البنفسجية الشاجية.. في فصل الرواية الأول.. بهذه القصيدة الباكية.. كلحن جنائزي بكاء.. يحتويك من مطلع الرواية إلى صفه، بعد الإهداء الذي استمالك إلى جانبه فيقول:

كيف أنساها دلال وهي فوق السلم الحجري تسقط

رأسها شج..

تخبط بطنها موج عذاب

صرخت دون التفات

أنقذوني

السكاكين بأحشائي وصدري

أيها الجيران..

يا كلبي.. الذي أطعمته عاماً وأكثر!

إنني أحببتكم في كل حين

فأحبوني ولو بعض الثواني

ساعدوني

غيبوني..

ابعدوا الآلام عني

إنني أنهار

يا هول السكوت

كيف لا عين تراني

إن رأسي يتهشم

وخطوط من دماء كلهيب فوق وجهي

يا إلهى!

من هو الزاعق؟ يا ناس!

دلال في خطر

أيها المجهول لا أقدر حتى أن أراك

هي بطني كالحمم

فإلى المشفى خذوني

أو سريعاً..

دمروا رأسي عسايا

أفقد الوعي وينداح الألم

ثم تمضي القصيدة/ الفصل، عازفة على أوتار الشخوص المحورية في الرواية التي تداخلت خطوطها وخيوطها، حتى أنتجت هذه الجريمة اللغز، التي كانت ثمرة مرة لأحداثها المتشابكة، وأجوائها النفسية والاجتماعية المتراكبة، من ذلك الزوج “د. عمر” الذي كان لا يرى أن الحقائق لا توجد إلاّ في المعامل، وولده “فادي” المصاب بانفصام الشخصية، جراء السلوك المتجاهل من الوالدين العبقريين في مجالي العلم والفن، والذين سقط فادي من جملتهم الموسيقية غير المتسقة.

وتلكم الخادمة “هدى” التي تغذت على الآفات الاجتماعية والنفسية لمعظم شخوص الرواية، فكانت كنبات الهالوك، الذي لا يكتفي بأن يعيش إلى جانب النبات الأصلي، بل لا تقوم حياته إلا على التغذية بالنبات الأصلي حتى الموت.

وبين الثنايا، يخرج دور “نزار” ذلك الطبيب المزيف النصاب، الذي يعيش حياة عليلة، ملؤها السلوك التعويضي عن فشله الدراسي، وتدنى مستواه الاجتماعي، فيسرف في التلذذ بمعرفة النساء، والتلهي بالموسيقى، والتشوف الدائم إلى صناعة النجاح الموهوم في أعين الآخرين، وهو ما كان يحب أن يكون!

وفي طياته تأتى أدوار زوجتيه “هند” و”سوزان”، ومعشوقته العبقرية الموسيقية العرجاء د. دلال، التي تزوجت العقل في عمر وأحبت النشوة في نزار وباهت بتدّله “باهر” في حبها.. تحت فلسفتها التي رسمتها لنفسها “من حقي أمام نفسي أن أتنفس ولا أحيا كأمي، إذ تسجن نفسها، وتصرخ في كل يوم”.

التي يتلخص مردودها السلوكي في قولها: “رائع أن يكون الإنسان محل إعجاب أكثر من شخص، رغم القدم العرجاء”، والتي ترى أن ذلك هو أبسط حقوقها على الآخرين، بعد ما أهدت البهجة للجميع.

ثم يختتم شاعرنا الروائي ذلك الفصل/ القصيدة بقوله:

“يتهم الكلٌ الكلَ

يرتاحون قليلاً حين يقال انتحرت

لكن..

أحداً.. لم يحسم شيئاً”!

ثالثاً: تنويعات (رمزية الشخوص وفضاء السرد):

1- رمزية الشخوص:

يمضي بك التنويع والتوزيع والتفريغ في هذه الرواية، إلى الحد الذي يجعلك تعيش لعبة “التباديل والتوفيق”، حيث يفضي البناء الحكائي لكل شخص إلى الآخر، من خلال المادة الحكائية المتعددة المستويات النفسية، والمعبأة بأعماقها الفلسفية للذات والمجتمع، عبر الأفق الثقافي والاجتماعي الذي عاشته، الذي كانت تود أن تعيشه، الذي آلت الأحداث والناس إلى أن تعيشه بالفعل.

فدلال: الموسيقية الموهبة الطموح التي تتلاحم شخصيتها وتنبعج، وتنبسط وتتذبذب، وتتقعر وتنبلج.. ذات الصقيع الملون بالخوف والملل، والذي يفرز المتناقضات، التي لا تستطيع استجماع نفسها، التي أرهقتها بامتدادها إلى أبعد منها، وإلى ما لا تطيقه وداعتها، ولا يتحمله علمها، ولا يستوعبه فنها الذي يفتح لها كل يوم باباً، يرميها في حضن مائة باب.

ولذا، فقد عاشت حياتها داخلياً وخارجياً، وهي مأزومة بمشكلة الساق العرجاء، التي تسرب عرجها من مشيها إلى سلوكها وهي لا تدري!

فادي: ذلك الولد الضحية، للوالد المستغرق بين محراب العلم، وطموح السفر، وجنون الأم بالموسيقى وشقشقة المعجبين، جرّاء أزمة تحقيق الذات، وسوء الصحبة المتسرب فادي من سوء صحبة أمه من قبل، فإن العرق دساس، حتى تفاقم به مرضه النفسي إلى أن يصبح موطن شك، يرقى إلى اليقين، في قتل أمه، وإزالتها من حياته.

ونزار: ذلك الاسم الذي يعنى الندرة أو القلة، وهو ذلك الطبيب الدعّي الكذوب، والدكتور المزيف، الذي يقاسم “دلال” سلم الإحباطات الموسيقية، التي تنتهي بتدبيره لاغتيالها، لانكشاف عورة أسراره أمامها.

وعمر: ذلك الرجل الصارم العالم، الذي يرى أن اليقين لا يوجد إلا في المعامل الذي امتدت شخصيته من أول الرواية حتى آخرها، وهو يصرخ من أعماقه صرخة مكبوتة مفادها: يااااااااااه.. يا دلال!

عبئك يتضخم كل يوم!

حتى لحن النهاية، كررته دلال ثلاث مرات، تلبيهَ لطلب الجمهور، في إشارة واضحة لضحاياها الثلاثة، باهر حبيبها المدرس الفاشل، ونزار حبيبها الطبيب الشغوف المزيف.. وعمر زوجها الرابض في الصالة، في حالة أقرب إلى الاختفاء، كأنه يتعرف من جديد، ومن بعيد على دلال، ثم ها هي تفاجئ الجمهور في منتصف الحفل بإطلاق عصفورين من عصافير الجنة.. من قفص استدعته لهذه المفاجأة التي أسعدت المشاهدين.. وكأنها تعلن أمام نفسها أنها ستطلق إلى فضاء اللا عودة، باهر، ونزار من قفصها الشخصي، الذي يجب أن يُشْغَل بعمر زوجها العالم المكافح الشريف.. ووحده.. وحده فقط.

أما باهر، فقد بدأ من أسماء الأضداد.. فلا هو باهر العلم.. ولا هو باهر الخلق.. ولا هو باهر السلوك.. ولا هو باهر الذرية..

وهكذا كانت كل الشخوص المحورية والثانوية في هذا “اللحن المكسور” ما هي إلا نوافذ تطل منها على عالمها الخاص والعام، بكل تداعياته وإشكالياته، الذي يتجلى في المتن الحكائي، الشارح لسيميائية هذه الحزمة “المتصارعة/ المتحابة”.. “المتماسكة/ المفككة”.. من خلق الله.. ولله في خلقه شؤون!

2- فضاء السرد:

عاش المصري فضاءه السردي، بريشة الفنان، ولون الرسام، ورقة الأديب، ونغمة الموسيقي، وعمق الفيلسوف، ورشاقة الشاعر الطروب

ومن ثم كان التشكيل لديه، مادة فنية قائمة بذاتها.. راوح فيها بين الشعر الذي استهل به الفصل الأول، على أنه مفتتح الرواية، ثم عاود عزفه النازف في الفصل الرابع مدندناً على نفس الأوتار التي تكمن في طياتها معظم المادة الحية للرمز، والهمز، واللمز.. والإيماء.. والإيحاء.. الذي أجاب على رؤوس الأسئلة، وسعى مع هؤلاء الناس في ذلك القطاع من حياتهم المترعة بكل ما في الحياة من صراعات وتناقضات، ظاهرة وباطنة..

ويذكر للمصري أن الفضاء الأكبر للرواية، هو فضاء دلال.. النابغة الموسيقية أستاذة الجامعة.. ساحرة الكمان.. التي تتنقل من معزوفات “بيتهوفن” “وفاجنر”.. إلى موسيقاها الخاصة.. وأرادت بها أن تنتصر على كل الغربان.. في لحنها الختامي “انتصار العصافير”.. التي عانقت فيه الموسيقى وعانقتها الموسيقى.. بعشق وجنون.

فهز نشوة الانتصار بتحقيق الذات، والتربع على عرش الإبهار اللامعقول، لأنها التي لا تريد أن تحمل كل الناس في شرايينها، وترصهم على رأسها، ثم تصرخ في فضائها اللا متناهي!

ذلك أنه يبدو أن كل مفردات الكون لها نغمات.

تلك حقيقة علمية.. فاللغة هي موسيقى الكون.. ولسان الكائنات.

نعود فنقول: يذكر للمصري أنه تماهي مع هذه الشخصية، فانتصر لها في كل أجواء الرواية، ودرامية الأحداث، وتفكيك الرؤى.. ونمو الأشخاص وتلاشيهم من حولها.. بدليل:

أنه أهدى لها عمله الروائي كبطلة، إلى جوار أحب الناس إليه أمه، وزوجته وخالته الأحب إليه، من بين خالاته الست “أمينة محمود رزق” كما أخبرني شخصياً.. ثم استهل عمله الروائي بالعزف شعراً.. على خلفية لحنها المكسور.

ثم ما لبث ثلث أحداث الرواية أن يمضي.. إلاّ وعاد إلى العزف شعراً في الفصل الرابع، كأنه المايسترو قائلاً:

عاصفة من موسيقي تقتلع الليل

فتبدله بصباح لم ينضج بعد

هذا ما يدفعني كي أعزف ما لا أفهمه أحياناً

أحتضن “كماني”

فهو يحاكيني إنسانياً

فشموخ الرقبة تنساب عليها لمسات أصابع كفي

وتطيّرنا

وكذلك وجهي

صار كأوتار تتأود

بالجز وبالمد!

ثم يقولها بالصريح الفصيح: إن الموسيقي تتُبَع لا تتبع!

ثم تدّارك شاعرية السرد، سد الفجوة بين الواقع المهموم، والعزف المنغوم.

فتقول:

كيف تكون كذلك؟

ورؤوس الناس بلا أذن تسمع!

فلنحفر أذاناً للناس

وندربها

لتميز بين الضحكة والصرخة

ثم تبرر لولدها فادي المضطرب نفسياً.. ولكل فادي آخر.. ولكل مضطرب سواه

هي ليست رجساً يا فادي

فالموسيقى نشأت في حضن الدين

هي إرث فرعوني سبق العالم في التعبير عن الأشواق الدينية والإنسانية

تلك خيول الموسيقى تصهل في أودية الروح

والآن سألت كماني:

كيف لأنغامك أن ترتاد جفاف حياة الفلاحين؟

وآهات المرضى في كل مكان.. فتخفف عنهم

وترقق أفئدة ملائكة الرحمة.. أصحاب الياقات البيضاء

نجح المصري بامتياز، في أن يتحول إلى “مغسل وضامن جنة” لبطلة روايته!

فالتمس لها العذر في كل أخطائها وخطاياها.. وكأنه يتحدث بلسانها تضامناً وشفقة وحباً.. حتى في دهشة الخاتمة.. التمس لها المبرر اللاعقلاني في ألا تخترق طلقة الرصاص كمانها المسند إلى جوارها.. فتصطدم به طلقة الاغتيال.. فتنحرف عن صدرها الحنون الحاني، ورأسها الشاجي لتصير الموسيقى حياة!

وكأن فضاء السرد قد تم نسجه على هواها فيما يخصها، إذ تقول: “حين أغمض عيني ينفتح العالم.. ويتسع المدى.. وتنير الأنغام ظلامه.. وربما صنعت خيالات أخذتنا من هذا العالم المختصر”..

وربما كان مبرر المصري في التماهي مع دلال.. في تدللها… أنه أتخذ لنفسه مفتاحاً مشروعاً لدى كل العقلاء من الناس مفادها.. إنها ضريبة النجاح!

وكذلك مناقشة الطروحات المتناثرة بين ثنايا الرواية: هل يكون النجاح مُرّاً في النهاية؟

وما كان إدمان باهر.. وتزييفات نزار.. وانفصام فادى.. ودفن عمر بالحياة.. وتآمر سوزان.. وغيرة هند.. وتخبطات دلال.. واندهاشات وصفي.. وخيانة هدى.. سوى سياقات صائبة أو خائبة نحو النجاح.. النجاح في أي شيء.. في العلم.. في جمع الثروة..  في الإبداع.. في التجارة.. في النصب والاحتيال.. في الحياة بحلوها ومرها.

وهكذا..

إنه التراسل الفني الذي نجح فيه المبدع الكبير نشأت المصري بدقة وحبكة وابتكار.. في شد خيوط الرواية، كشد دلال لأوتار كمانها الذي يصدر نغمته الأخيرة المخنوقة.. ليكون الصدى الأخير.. لبطلة “اللحن المكسور”.. التي أرادت ألا تكون كل ألحان حياتها مكسورة.. فلم يكن لها ما أرادت..

وبقي السؤال الجوهري المفتوح:   

كيف حدث ما حدث؟

ولماذا حدث ما حدث؟

حتى تهالكت كل الجسور!

Exit mobile version