إصلاح التفكير الديني

الإمام محمد عبده

 

تناولنا في الحقة الثانية من هذه القراءة ما يتعلق بموقف محمد عبده من إصلاح العقل وإصلاح التعليم، ونتناول في هذه الحلقة ما يتعلق بإصلاح التفكير الديني لدى المسلمين، وذلك من خلال اعتماد النزعة العقلية في مناقشة كثير من الأمور والقضايا التي ترادفت مع التراجع الإسلامي وكانت سببًا من أسبابه في ذات الوقت، فناقش الموقف من العقل جملة، والعقل والإيمان، والعقل والقضاء والقدر، والحرية الإنسانية. ونتناول بعض مضامين هذه المناقشات فيما يلي.

إصلاح التفكير الديني

الدين هو مدار النهضة كما يراه محمد عبده – وكما هو في استقراء تجربة الحضارة الإسلامية- والركيزة الأساسية في مشروعه الإصلاحي، ولكن من أي جانب رأى “الدين” في حياة المسلمين؟ وكيف يحتاج “التفكير الديني” إلى إصلاح؟ وما معالم ومضامين هذا الإصلاح؟

نظر عبده إلي الخلل الموجود في حياة المسلمين وأكد أنه بسبب الخلل الموجود في “فهم الدين” أي طريقة نظرة المسلمين إليه والتعامل معه ومكانته في سلم القيم الاجتماعي. وفي هذا الإطار اعتنى بإصلاح “علم التوحيد” فالتوحيد هو المركزية الأساسية للفعل الإسلامي الإنساني والذي تتمحور حوله أنشطة المسلم.

جاءت هذه المحاولة بهدف معالجة الخلل الذي يعاني منه “علم التوحيد” الذي اختلطت به شوائب كثيرة جعلته يحيد عن تحقيق أهدافه، وأعاقت التصور العقدي للمسلمين، لاسيما تلك الحوادث التي حدثت في صدر الإسلام، والحروب التي انفصمت بها عرى الخلافة، والتفرق المذهبي والسياسي، وانتشار فكر “الغلو” و”التكفير” و”اختراع” الروايات، ودخول أمم في الإسلام حاولت خلط ما لديها من عقائد وأفكار بالإسلام. ومن المخاطر التي اكتنفت هذا العلم هو اختلاط السياسي الإيديولوجي بالديني العقدي يقول في ذلك: “وكانت الآراء في الخلفاء والخلافة تسير مع الآراء في العقائد كأنها مبنى من مباني الاعتقاد الإسلامي… فخلطوا بمعارف الدين ما لا ينطبق حتى علي أصل من أصول النظر” ([2]).

ويُصور المشهد العقدي الإسلامي والخلل الذي أوجده الساسة فيه بقوله “…ثم انتشرت الفوضى العقلية بين المسلمين تحت حماية الجهلة من ساستهم، فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم، فوضعوا ما لم يعد للإسلام قِبلٌ باحتماله، غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصارًا، ومن البعد عن ينابيع الدين أعوانًا، فشردوا بالعقول عن مواطنها، وتحكموا في التضليل والتكفير، وغلوا في ذلك حتى قلدوا بعض من سبق في دعوى العداوة بين العلم والدين” ([3]).

ولم يجد الإمام المجدد مخرجًا من هذا التيه العقدي الذي لعبت فيه “السياسة” وجهل المسلمين “نقص المعارف” دورًا أساسيًا. لم يجد إلا مخرج “العقل” وإحياء “النزعة العقلية” في القرآن حيث “رفع القرآن من شأن العقل وما وضعه من المكانة بحيث ينتهي إليه أمر السعادة والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع”. ([4]) وسعى إلى تأسيس الاعتقاد وتجديده على أساس من العقل فقرر أن النظر العقلي من أول الواجبات على المكلف. والواجب على كل ذي عقل أن يمعن النظر في الحقائق، ويسيرها على وجه أدق بحسب طاقته ويقيم البراهين القطعية على النفي والإثبات. “…خصوصًا ودعوة الدين إلي الفكر في المخلوقات لم تكن محدودة بحدود ولا مشروطة بشرط، للعلم بأن كل نظر صحيح فهو مؤد إلى الاعتقاد بالله على ما وصفه بلا غلو في التجريد ولا دنو في التحديد ” ([5]).

وقد كتب بيانًا مهمًا حاول فيه إصلاح “علم التوحيد” من ناحية، وتأسيس “علم الكلام” على قواعد عقلية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية من ناحية أخري فكتب “رسالة التوحيد” مشتملة على تحديد مجموعة من المفاهيم الأساسية: “التوحيد” في مقدمتها، وتمثلاته في “القضاء والقدر” و”أفعال الله” و “أفعال الإنسان” و “الحرية” و “الصفات” و “الممكن والواجب” و”النبوة”…الخ مما تعلق بأصول وفروع هذا العلم. وقد كان المشترك في تناول كافة هذه الموضوعات الكلامية العقدية هو “العقـل” الذي أعاده “محمد عبده” إلى الحياة العقدية والاجتماعية للمسلمين مرة أخري تحت قاعدة “وجوب النظر العقلي” وجوبًا “قرآنيًا” و”شرعيًا”.

حاول كذلك أن يعيد المسلمين إلى مفهوم “التوحيد” القائم على “العقل” والمنزه عن الخلافات السياسية والصراعات المذهبية، والمنزه عن الحوادث والعلل التي ألمت به فرأى أن تفعيل دور العقل والعقلانية في دعوة “التوحيد” وفي الاعتقاد بوجود الله ومعرفته. إلا أن “التوحيد” عند محمد عبده لم يكن ذا بعد وجداني فقط. ولكن نظر إليه – في بعده الكلي والشامل أي الاجتماعي والسياسي والثقافي باعتباره توحيد ووحدة وحرية “… والذي علينا اعتقاده أن الدين الإسلامي دين توحيد في العقائد لا دين تفريق في القواعد، العقل من أشد أعوانه والنقل من أقوي أركانه” ([6]).

ويحدد عبده في “رسالة التوحيد” الغاية من “علم التوحيد” وهي: “القيام بفرض مجمع عليه، وهو معرفة الله تعالي بصفاته، الواجب ثبوتها له، مع تنزيهه عما يستحيل اتصافه به، والتصديق برسله علي وجه اليقين الذي تطمئن به النفس اعتمادًا علي الدليل، لا استرسالًا مع التقليد حسبما أرشدنا إليه الكتاب، فقد أمر بالنظر واستعمال العقل فيها بين أيدينا من ظواهر الكون، وما يمكن النفوذ إليه من دقائقه، تحصيلًا لليقين بما هدانا إليه، ونهانا عن التقليد بما حكى عن أحوال الأمم في الأخذ بما عليه آباؤهم، وتبشيع ما كانوا عليه من ذلك واستتباعه لهدم معتقداتهم وإمحاء وجودهم الملي”([7]).

ويبين فهمي جدعان “وظائف التوحيد” في ضوء هذه الرسالة الرائدة، وهي: ” أنه طاقة محررة من الطراز الأول…وتطهير العقول من الأوهام الفاسدة والعقائد الخرافية والارتفاع بالإنسان إلي أسمى مراتب الكرامة، ثانيًا: رد الحرية إلي الإنسان وإطلاق إرادته من القيود التي كانت تكبلها سواء تمثلت في الرؤساء الدينين والكهنة أو في القوى الخفية… وثالثًا: حربًا على التقليد واختلاعًا لأصوله الراسخة في المدارك ونسفًا لما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم. ورابعًا: رد الكثرة إلى الوحدة، والتنابذ والفرقة والتخالف إلى الاتحاد والألفة والتجمع…بمقتضي التوحيد يتم للإنسان أمران عظيمان طالما حُرم منهما هما استقلال الإرادة واستقلال الرأي والفكر ([8]).

كما تعرض رسالة التوحيد قضية “الحرية الإنسانية” أي حرية الإنسان في أفعاله وكانت ردًا على اتهامات توجه إلي الإسلام فيما يتصل بمسألة “القضاء والقدر” والتي رأي فيها – عبده- أن الغرب وبعض المسلمين أخطئوا في فهمها حينما رأوا أن المفهوم الإسلامي لهذه المسألة يدعو المسلمون إلى القعود عن العمل والكسل أي “الجبرية”. فيصحح أولًا مفهوم “القضاء والقدر” بأنه على النقيض تمامًا من هذا الفهم “السكوني” و”التراجعي” عن العمل بقوله “الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرد عن شناعة الجبر يتبعه صفة الجراءة والإقدام، وخلق الشجاعة والبسالة… هذا الاعتقاد يطبع النفس على الثبات، واحتمال المكاره، ومقارعة الأهوال، ويحليها بحلى الجود والسخاء، ويدعوها إلى الخروج من كل ما يعز عليها، بل يحملها على بذل الأرواح، والتخلي عن نضرة الحياة، كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة ” ([9])، ويؤكد في جانب آخر على حرية الإنسان في خلق أفعاله وأن هذه الحرية ليست شركًا بالله، لأن الشرك اعتقاد بشريك لله في الخلق والهيمنة والمالكية على الكون، ويقرر نظرته لهذه المسألة في أمرين هما “ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية: الأول، أن العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته، والثاني، أن قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات وأن من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده، وأن لا شيء سوي الله يمكن له أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه” ([10]).

 

 

______________________________________________

[1]  أستاذ أصول التربية- جامعة دمياط.

([2])محمد عبده: رسالة التوحيد، مرجع سابق، ص25.

([3]) المرجع السابق، ص31.

([4])المرجع السابق، ص20.

([5])المرجع السابق، ص29.

([6])المرجع السابق، ص32.

([7]) المرجع السابق، ص32.

([8]) فهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ص200 – 201 (باختصار).

([9]) محمد عبده: “القضاء والقدر”، مجلة العروة الوثقى، القاهرة، دار العرب، 1957، ص53.

([10]) محمد عبده: رسالة التوحيد، مرجع سابق، ص64.

Exit mobile version