4 أيام عمل في الأسبوع.. جدل اقتصادي بين خفض البطالة وضعف الإنتاجية

 

في منتصف هذا العام تقريبا بدأ العاملون في أكثر من 70 شركة بريطانية تجربة مثيرة للجدل تتعلق بإمكانية العمل لمدة أربعة أيام فقط في الأسبوع، تجارب مماثلة سبق أن أجريت في أماكن أخرى من العالم، لكنها لم تجر على هذا النطاق الواسع، وظلت نتائجها مثار أخذ ورد بين مختلف الأطراف.

المؤيدون للفكرة يبنون حيثيات دفاعهم على أن إنتاجية العمل أربعة أيام أسبوعيا لن تنخفض عن الإنتاجية المحققة في خمسة أيام بفضل التطور التكنولوجي، أما المنتقدون فيتشككون في ذلك ويعدون الفكرة غير عملية على الأقل في بعض القطاعات.

التجربة البريطانية وحتى تتكشف لنا نتائجها تدفعنا إلى التساؤل، هل العمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع فكرة صائبة أم لا، وهل هي حقا مفيدة للجميع كما يدعي أنصارها، وهل حقا تؤدي إلى زيادة إنتاجية العاملين وتحسن التوازن بين العمل والحياة وتزيد مستويات السعادة وتحد من البطالة؟

وإذا كانت بالفعل كذلك فهل تتساوى الفائدة التي يجنيها العاملون نتيجة خفض أسبوع العمل إلى أربعة أيام مع الفائدة التي تحققها المؤسسات التي ينتمون إليها نتيجة فقدان يوم العمل الخامس، وهل بالفعل يمكن أن ترتفع الإنتاجية رغم انخفاض أيام العمل، وهل يعود ذلك إلى تقليص أيام العمل أم إلى زيادة الاستثمار في التكنولوجيا المستخدمة؟

التجربة البريطانية تضمنت مشاركة 3300 موظف دون تخفيض في الأجور، وسيستمر المشروع التجريبي لمدة ستة أشهر ويستند إلى نموذج يعرف بـ100-80-100 أي دفع 100% من الأجور مقابل 80% من ساعات العمل مع التزام العمال بالحفاظ على إنتاجية بنسبة 100%.

تسبق فكرة أسبوع عمل من أربعة أيام جائحة كورونا بأعوام، لكن الجائحة والعمل من بعد دفع تلك الأفكار إلى المقدمة، وأوجد قوة محفزة لتطبيقها أكثر وأكثر على أرض الواقع. وقد أشارت الاستطلاعات التي أجريت في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى أن معظم العاملين يفضلون أربعة أيام عمل.

الدكتورة إلينا لانسر الاستشارية السابقة في منظمة العمل الدولية وأحد أبرز المدافعين عن أربعة أيام عمل أسبوعية تبرر لـ”الاقتصادية” دفاعها عن نموذج العمل هذا بالقول، “سيساعد خفض العمل الأسبوعي لأربعة أيام في تحسين الروح المعنوية وقلة الغياب، بتقليل الإرهاق ما يجعل الموظفين أكثر سعادة وأكثر تركيزا على أدوارهم، وسيساعد أيضا في التوظيف بتقديم نمط عمل مرن للموظفين الحاليين والمحتملين ما يجذب المهنيين الموهوبين ويساعد على الاحتفاظ بهم”.

وتضيف “يتطلب اقتناع أصحاب الأعمال بأسبوع العمل الأقصر تغيير الثقافة، والتخلي عن الأسطورة القائلة إن ساعات العمل الطويلة تؤدي إلى نتائج أفضل”.

على النقيض من تلك الفكرة يؤكد لـ”الاقتصادية” الدكتور وليام كلارك أستاذ التنمية الاقتصادية في جامعة لندن وعضو حزب المحافظين البريطاني وأحد أبرز المعارضين لفكرة خفض أيام العمل الأسبوعي إلى أربعة أيام أن “تلك الأفكار من الاشتراكيين الجدد، ومن غير المحتمل أن يعزز أسبوع عمل مكون من أربعة أيام الإنتاجية ما لم تكن منخفضة بالفعل، ففي بلدان مثل أيرلندا والمملكة المتحدة يتمتع العامل بإنتاجية مرتفعة وفقا لمعيار الناتج المحلي الإجمالي لكل ساعة عمل”.

ويقول “تعد الإنتاجية في أيرلندا من بين أعلى المعدلات في العالم، حيث بلغت 125 دولارا في الساعة عام 2019، وعلى الرغم من وجود نقاشات متواصلة في المملكة المتحدة لزيادة إنتاجية الأيدي العاملة لمواكبة الاقتصادات الكبرى الأخرى، إلا أنها لا تزال مرتفعة جدا من حيث القيمة الإجمالية عند 54 دولارا في الساعة، أما الأرقام المعادلة في الصين والهند فهي 11 و8 دولارات على التوالي”.

من هذا المنطلق يشير خصوم خفض أيام العمل الأسبوعي إلى أربعة أيام إلى أن الحفاظ على مستويات الإنتاجية سيتطلب من العاملين زيادة الإنتاج في الساعة بشكل ملحوظ، وذلك ببساطة لأن إجمالي الناتج المحلي سينخفض إذا عمل الجميع بنسبة 20% أقل، ويستشهدون في ذلك بتجربة أجرتها اليابان عام 1988 بتقليل أسبوع العمل من 46 إلى 30 ساعة، ولم تزد الإنتاجية بما يكفي للتعويض.

لكن في المقابل سنجد أن المدافعين عن الفكرة يستشهدون بالمواطنين في هولندا وأنهم يعملون 29 ساعة فقط في الأسبوع في المتوسط، وتلك أدنى نسبة في العالم الصناعي، ونتيجة لذلك لديهم معدل توظيف مرتفع، كما أنهم من الناحية الثقافية يعطون الأولوية لقضاء الوقت مع أسرهم أو المشاركة في أنشطة اجتماعية ربما يتعلق بعضها بالعمل، لكنهم لا يزالون قادرين على الحفاظ على معدلات إنتاجية عالية جدا.

لا تعد فكرة أسبوع عمل أقصر فكرة جديدة تماما، فغالبا ما ينسب الفضل في أسبوع عمل مدته خمسة أيام إلى هنري فورد الذي اقترح في عام 1914 أن يتحول العمل في مصانع سيارته من ستة أيام إلى خمسة أيام، وساعد إنشاء النقابات في القرن الـ20 على جعل أسبوع العمل خمسة أيام ويومين للراحة هو القاعدة.

موجة الاهتمام العالمي حاليا بأسبوع عمل من أربعة أيام، تعود في جزء منها إلى أن إحدى الفوائد المفترضة لتقصير أسبوع العمل هي تقليل البطالة، وفي الواقع فإن هذا كان أحد أسباب تقصير أسبوع العمل من ستة أيام إلى خمسة في ثلاثينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة تحديدا حيث كان معدل البطالة حينها 25 %، اليوم يبدو المشهد مختلفا من وجهة نظر البعض.

الباحث في قضايا العمل والإنتاجية بي ماركوس يشير إلى أن البطالة في المملكة المتحدة اليوم 3.8% وهي الأدنى منذ عقدين من الزمان وفي الولايات المتحدة 3.5% وذلك أدنى معدل في نصف قرن في أيرلندا 4.7%، وفي المانيا 2.8% وهذا المعدل واحد من أقل المعدلات في الاتحاد الأوروبي.

ويقول لـ”الاقتصادية” إن “هناك كثيرا من الأعمال الشاغرة في الاقتصادات المتقدمة، ولكن لا توجد أيد عاملة كافية، وعندما تكون البطالة منخفضة في معظم الدول الرأسمالية المتقدمة، فسيكون من عدم الحكمة الاقتصادية تقليل المعروض من العمالة عن طريق خفض ساعات العمل للجميع، إلا لو كانت لدينا ضمانات قاطعة بأن مستوى الإنتاجية سيبقى أعلى من إنتاجيتهم إذا عملوا لمدة خمسة أيام”.

ويضيف أن “خفض مدة أسبوع العمل إلى أربعة أيام سيفاقم النقص الراهن في الأيدي العاملة، وسيضغط على المالية العامة فعلى سبيل المثال ستتطلب الخدمات الصحية مزيدا من الموظفين وبالتالي رفع فاتورة الأجور”.

ولكن أليس جزءا من المفاهيم الحديثة للعلاقة بين المؤسسة والعاملين فيها الحفاظ على سعادتهم والاهتمام بما يعرف بالصحة البدنية والنفسية لأطقم العمل؟ ويعتقد كثير من أنصار أربعة أيام عمل أن تقليص عدد أيام العمل سيضيف إلى الصحة النفسية والبدنية للعاملين.

في الواقع يشير عدد من كبار مديري الشركات من بينهم رجل الأعمال البريطاني مارك بوست أحد مؤسسي شركة “Civo” وهي مزود خدمات سحابية وتعد من الشركات الرائدة في هذا المجال في المملكة المتحدة، الذي يؤكد أن تقليص ساعات عمل الموظفين إلى 34 ساعة خلال أربعة أيام مدة كل منها 8.5 ساعة أوجدت شعورا بالامتنان الشديد من قبل العاملين تجاه المؤسسة نظرا إلى الوقت الإضافي الذي حصلوا عليه، لأنه يساعد على تخفيف الضغط من داخل العمل وخارجه، ويسمح للعاملين بقضاء وقت إضافي مع أطفالهم والتعامل مع المهام المنزلية.

لكن أنصار العمل لمدة خمسة أيام في الأسبوع يتشككون في أن هذه السعادة ستدوم.

د. إليسون ديل أستاذة مبادئ علم الاقتصاد في جامعة شيفيلد ترى أن علم النفس لا يدعم كثيرا وجهة نظر رجل الأعمال البريطاني مارك بوست، ولـ”الاقتصادية” تعلق قائلة: “الادعاءات بأننا سنكون جميعا أكثر سعادة نتيجة العمل أربعة أيام تتجاهل نظرية الحلقة المفرغة للمتعة، التي ترى أن السعادة الإضافية الدائمة هي سراب، فقد يشعر الناس بسعادة أكبر على سبيل المثال لمدة ستة أشهر لكن على المدى الطويل يمكن القول إنهم سيعودون إلى مستوى سعادتهم السابقة”.

ولهذا ترى الدكتورة إليسون ديل أن التجربة البريطانية الراهنة بشأن خفض عدد أيام العمل الأسبوعي إلى أربعة أيام لن تكون نتائجها دقيقة، لأنها لمدة ستة أشهر فقط، وكان يجب أن تكون لنحو عام على الأقل، لأن الرضا الوظيفي وفقا لمسح أجري عام 2018 لا يزال مرتفعا في البلدان الأوروبية.

ويعرب البعض عن قناعته من أن نظرية العمل لمدة أربعة أيام ربما تكون أكثر ملاءمة للمجتمعات الشابة أم المجتمعات الصناعية المتقدمة حيث شيخوخة السكان في تزايد، فإن دفع كبار السن إلى أن تكون إنتاجيتهم في أربعة أيام عمل مساوية لها في خمسة أيام يعني أن عليهم بذل مزيد من الجهد في فترة زمنية أقصر، ويوجد هذا حالة من التوتر لديهم قد تؤدي إلى تآكل السعادة الناجمة عن خفض أيام العمل، كما تزيد من شعورهم بغياب الأمان الوظيفي لاعتقادهم أنهم الأكثر عرضة للصرف من العمل في أول تقليصات وظيفية.

في عام 1930 تنبأ الاقتصادي الشهير جون مينارد كينز بانه بحلول عام 2030 سنعمل جميعا لمدة 15 ساعة في الأسبوع، وتبدو تجربة العمل من المنزل في فترة جائحة “كوفيد” بمنزلة تدريب أولي على فكرة العمل لمدة أربعة أيام فقط، إذ تبدو الاثنتان وكأنهما تنحدران من المنطق نفسه، فمن المشكوك فيه وجود شيء ماتع بالعمل لساعات طويلة على المكتب ذاته يوميا، أما الصورة السينمائية التي تروج لها هوليوود بأن العمل لوقت متأخر من الليل وعطلات نهاية الأسبوع وأن يكون الموظف متاحا في أي وقت باعتبارها دليلا على التفاني وتؤدي إلى الترقية، فربما تسود أكثر في الشركات المالية والقانونية العملاقة مقارنة بالشركات الصغيرة.

وفقا لمسح أجرته شركة “Deloitte” يخطط 22% من جيل الألفية لترك وظائفهم بسبب ضعف التوازن بين العمل والحياة، ربما يعكس هذا مرحلة الانتقال الراهنة من الاقتصاد المادي إلى الاقتصاد الافتراضي حيث الخيارات متعددة ومتنوعة، وربما تعكس فكرة أربعة أيام عمل أسبوعياً تغيراً مجتمعياً حيث كانت ساعات العمل في تغير دائم ومستمر عبر العصور، فالمؤكد أن يوم العمل المؤلف من 8 ساعات ليس “قانوناً طبيعياً” أصيلاً أو أبدياً.

Exit mobile version