رسالة من مهاجر

 

يترك الناس أوطانهم لأغراض عدة، وللهجرة عذاباتها كما أن لها فوائدها المتعددة.

وعندما نعود للتاريخ نجد رسالة قوية جداً خرجت من مهاجر في ظروف عسيرة كان صاحبها مخيراً بين أعز ما يملك وطلب الراحة والأمن، خرجت هذه الرسالة في محاورة علنية بين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وخصمه ومن يؤويه.

وتبدأ قصة هذا المهاجر عندما أشار النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة، فخرج منهم جماعة باحثين عن مكان يؤدون فيه شعائر دينهم ويقومون بواجب البلاغ عن الله تعالى، لعل الله سبحانه يفتح نافذة للخير في قلوب أهل هذه الأرض، ولعل رقعة الإسلام تتسع.

ربما أدركت قريش ما يعود عليها من أخطار إن أمن المهاجرون في موطنهم الجديد واتسعت دعوتهم وانضم إليهم من يمد يد العون بمال ورجال، فأرسلت وفداً محملاً بالهدايا أو قل بالرشى تريد أن تعيد إليها الخارجين عن سلطانها السياسي والديني، هذه هي خلفية الرسالة التي قام بها أحد المهاجرين للملك الذي يؤويهم ولخصومهم، وهي رسالة خرجت من قلب حي مفعم بالإيمان واثق من تأييد الله تعالى، موقن بأن الأرض لله تعالى إن ضاق منها موضع سيوسع الله عز وجل لهم في موضع آخر أفضل منه فما خرجوا إلا لله عز وجل.

نحن نقارن بين وفد جاء مهاجراً إلى ربه ووفد آخر جاء محملاً بالهدايا الثمينة محاولاً بها قلب الحقائق أو على الأقل تغطيتها، فلمن يكون النصر للحق الذي يحسن أهله عرضه مستفيدين من القوة الذاتية للحق، واضعين أيديهم على ما يحرك القلوب والعقول، أم للباطل الذي ينتفش ويتزخرف لكنه زبد يذهب جفاء، وهو وإن استطاع أن يغطي الحقيقة أو يبعدها عن البصر والبصيرة زمناً فلن يبقى ذلك أبد الدهر.

رسالة خرجت من قلب حي مفعم بالإيمان واثق من تأييد الله تعالى

رسالة قوية

إن قريشاً تعلم قوة الحق في ذاته، لذا أوصت سفيريها عمرو بن العاص، وعبدالله بن أبي ربيعة، أن يطلبا من ملك الحبشة تسليم أولئك الهاربين دون أن يسمع منهم دفاعاً عن أنفسهم، فلو أتيح لهم المجال للكلام لكان حديثهم كعصا موسى تلقف ما يأفكون، ولظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون.

بدأ وفد قريش بتقديم هداياهم لحاشية الملك وبخطاب تحريضي منفّر من هؤلاء المهاجرين الذين خرجوا على كل الأعراف، أعراف قومهم وأعراف الملك كذلك، ثم وصلوا إلى المقصود من هذه الرحلة وهو تسليم أولئك المخالفين دون أن يسمع الملك منهم.

لكنْ قام جعفر بن أبي طالب بتقديم رسالة قوية شرح فيها حقائق دينه، وكيف كانت أحواله وأحوال قومه وصفات الداعية الذي غيَّر أحوالهم، ثم أشار رضي الله عنه إلى مكارم الأخلاق والعبادات التي أمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم ومساوئ الأخلاق التي نهاهم عنها النبي صلى الله عليه وسلم. 

ثم قبولهم لهذه الهداية التي تأكدوا أنها من الله تعالى لأنها تأمر بكل خير وتحذر من كل شر، وأن السير في طريق الخير جلب عليهم عداوة قومهم وأذيتهم، فهم يريدون أن يكون الكل سواسية في الشر، فما كان من هؤلاء المهاجرين إلا أن خرجوا إلى بلد يتمكنون فيه من عبادة ربهم والقيام بحقوق الخلق والتحلي بمكارم الأخلاق، واختاروا هذه البلاد لأنهم أمنوا على أنفسهم فيها من العدوان، وصدقت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في النجاشي، فهو رجل عادل لا يصدر حكماً قبل أن يتحرى الحق، وسعياً لتحري الحق طلب من جعفر أن يتلو عليه آيات من كتاب الله، فقرأ عليه صدراً من سورة “مريم”، وفيها ذكر لنبي يعرفه النجاشي، وظهر تأثر كل من سمع هذه التلاوة حتى من تلقوا رشى فللحق نوره وسلطانه.

هنا أعلن النجاشي أن من أنزل هذا الكتاب هو من أنزل الإنجيل على عيسى.

انتهى هذا الموقف بانتصار المهاجرين المسلمين بتوفيق الله تعالى الذي أيَّد جعفراً رضي الله عنه بحسن عرض الإسلام وحسن اختيار ما يناسب المقام لعقد صلة قوية بين النجاشي والإسلام، لكن مبعوث قريش لم يستسلم لهذه الهزيمة المنكرة وأراد تأليب الملك على هؤلاء المهاجرين الذين تعاطف معهم وتأليب حاشيته عليه إن لم يتخذ قرار طردهم. 

وفي الغد اتهم مبعوث قريش هؤلاء المهاجرين بالإساءة إلى عيسى عليه السلام إساءة بالغة، ومقتضى هذه الإساءة أن يطردهم، فإن لم يفعل أنكرت عليه الحاشية لأنه لا يقوم بما يجب عليه نحو حماية الدين.

الحق يحتاج إلى حسن عرض ولباقة

لقد وضعهم هذا الموقف بين خيارات صعبة؛ هل يقولون ما يعتقدون في عيسى وبذلك يخسرون تأييد الملك وربما لحقهم أذى وطرد من هذه الديار الآمنة؟ هل يخفون الحقيقة ويقولون ما لا يعتقدون وليحدث ما يحدث وقدر الله تعالى كله خير؟ ارتضوا أن يقولوا الحق مهما كلفهم، وتقدم جعفر مرة أخرى ليعلن موقف المسلمين من عيسى عليه السلام، ليعلن النجاشي مرة ثانية أنه مع الحق، وليثبت حسن ظن النبي صلى الله عليه وسلم فيه.

ورغم ما بدا من إنكار ممزوج بالغضب على الحاشية الذين ظهروا بمظهر حماية الدين، فإن النجاشي ثبت على موقفه وأعلن اتفاقه مع ما قالوا، وأعلن أن المهاجرين آمنون، وأن من تعرض لهم ستوقع عليه غرامة، ليعلن أن حمايته لهم قد ازدادت، ولم يكتف بذلك؛ بل رد رشى قريش التي أرسلتها لإعادة المهاجرين إلى مكة لتفتنهم عن دينهم.

إن جعفراً يقدم رسالة من وراء القرون لكل المهاجرين؛ يعلمهم كيف يقدمون الإسلام عقيدة وأخلاقاً، وكيف يختارون من كتاب الله تعالى ما يناسب المقام، ويعلمهم أن الثبات على الحق هو أعظم أبواب الخير، يعصم الله تعالى به من الفتن، أما التلون واللعب على كل الحبال فليس من شأن من يدعون إلى الله وليس من شأن الصادقين في دينهم.

إن الصدق مع الله رأسمال المسلم، ومن صدق مع الله فتح الله تعالى له خزائن التأييد والمعونة من حيث يحتسب ولا يحتسب، ولله جنود السماوات والأرض، وأن الأرض لله، وأنه سبحانه يتولى عباده الصالحين مهما مكر بهم أعداؤهم وكادوا لهم فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

حسن عرض

لقد ابتعد جعفر رضي الله عنه عن مواطن النقاش والأخذ والرد، فحكى حالهم قبل الإسلام وبعده، حكاية صادقة ليس فيها تزوير ولا تزييف، حكاية تدفع كل شخص صاحب عقل وإنصاف عندما يقارن بين الحالين أن يختار الأعلى منهما أو يحمد من اختاره، وهذا هو المطلوب من خلال هذا العرض، واختار مكارم الأخلاق التي جاء الأنبياء جميعاً للدعوة إليها.

لا بد أن ندرك أن الحق يحتاج إلى حسن عرض ولباقة، فكم من حق تاهت معالمه بسبب سوء العرض! وكم حق تاه عنه الناس بسبب سوء العرض!

Exit mobile version