فاعتبروا يا أولي الأبصار

 

كنت أمرُّ على بيوت يبدو عليها آثار الثراء والعظمة، لكنها تعاني من الإهمال ومرور السنوات دون ترميم أو تنظيف، سبحت بخيالي إلى تلك الأيام التي كانت هذه القصور عامرة فيها بألوان الحياة والنعيم يرتادها الزوار طمعاً في كرم أهلها، تصورت كم كانوا يتلذذون مع ضيوفهم بألوان من الترف، كم أقيمت فيها من حفلات زواج أو ميلاد أو نجاح أو حصول على منصب مهم، تخيلتهم وهم يجلسون آمنين من أخطار الفقر وآمنين من عدوان ظالم أو مجرم فلهم سطوتهم ويدهم الطولى التي تعاقب كل من يفكر في أذيتهم، تخيلتهم وهم يجنون أرباح أعمالهم وثرواتهم ويفرحون بها، ثم تخيلتهم وهم يوسعون على خدمهم كسوة وطعاماً ومالاً في مواسم الخير، يعينونهم على أعباء الحياة أو يقترون عليهم ولا يرون لهم حقاً في الحياة أصلاً إلا بمقدار ما يخدمونهم.

ثم تخيلت تلك اللحظات الصعبة لحظة مفارقة هذه النعم الكبيرة لينزلوا إلى مستوى معيشي واجتماعي، أقل فلم تعد الثروة تكفي، كل هذا البذخ وقد شحت الموارد ووجب الاقتصاد هذه الكلمة الشديدة التي لم يتعودوا عليها ولم يحسبوا لها حساباً.

ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام.

تخيلتهم وهم يخرجون إلى بيوت أضيق وشوارع أضيق كم أخذوا من الوقت ليعتادوا على حياتهم الجديدة.

بقيت هذه البيوت تذكر كل من يمر عليها بأشياء:

كم تنعَّم هؤلاء بالنعم سنوات طويلة يأكلون ويمرحون لا يتصورون أن يفارقوا النعم بالموت أو تفارقهم بالزوال، ومع ذلك حدث ما لم يكن في الحسبان، وعدم تصور الإنسان للتغير والتغيير لا يعني أنه لن يحدث.

ثم أسأل نفسي: هل يمكن أن يصيبني مثل ما أصاب هؤلاء فتزول النعمة من بين يدي أو تقل؛ فأنتقل من السعة إلى الضيق، ضيق في السكن وفي الرزق وفي القلب وفي العقل، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.

الذي يجعل مثل هذه النعم تبقى بل تزداد: الشكر، الشكر أعظم حافظ للنعم ذلك الشكر الذي يعيد الفضل إلى الله، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ).

ويروى أن نبياً قال لربه: “يا رب علمني شيئاً أشكرك به، قال: الآن شكرتني حين علمت أن النعمة مني..”، وهل يجهل أحد أن النعم من الله، هناك من ينسى ويطغى لدرجة أنه يعتقد أن هذه النعم عنده لأنه ذكي وقادر على التعامل مع مجريات الأمور، أو يظن أن الله اختصه بهذه النعم لأن له فضلاً ومزايا ليست لغيره.

الشعور بأن النعم من الله يجعل العبد ممتناً لربه مثنياً عليه بلسانه رحيماً بالخلق حريصاً على الإحسان إليهم بما أمكنه، متأكداً أن هذا الإحسان سيعود عليه أضعافاً مضاعفة، يقدر المحرومين ولا يتكبر عليهم، ساعياً إلى بذل المزيد من العمل.

استخدام النعم فيما يرضي الله تعالى

إن هذه المشاهد التي تذكر بالله تعالى وقيوميته على الكون، وتذكر بطبيعة الدنيا؛ توقظ في قلب المؤمن التفكر في مقادير الله تعالى، وكيف يتحول الناس من حال إلى حال؛ فيسعى لإصلاح نفسه وتصحيح مساره، وأشد المصائب التي تقع على العبد حين ينظر ببلاهة إلى هذه التغيرات الكبيرة في حياة من حوله دون أن يعتبر ويتعظ، فإذا غاب التفكر عن الإنسان وقع في الموبقات وارتكب أشد الجرائم وسار في طريق الضلالة حتى آخره دون أن يرتجف قلبه من خشية الله أو تدمع عينه من مهابته.

تذكر بقوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} (الدخان).

تذكر بقَول رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِ الْحِجْرِ: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ» (صحيح مسلم)، تساءل شراح الحديث لماذا يعذب الله تعالى من يدخل على بيوت الذين ظلموا أنفسهم دون أن يبكي؟ وأجابوا بما معناه أن عذاباً وقع على هؤلاء بسبب معاصيهم فتغيرت أحوالهم من العمران إلى الخراب ومن النعيم إلى العذاب، فمن لم يعتبر بذلك انساق إلى المعاصي وسار في طريق نهايته غضب الله تعالى عليه.

وتبيّن ربّ الخورنق إذ أشـ … رف يوما وللهدى تفكير

سرّه حاله وكثرة ما يمـ … لك والبحر معرضا والسّدير

فارعوى قلبه فقال وما غبـ … طة حيّ إلى الممات يصير

ثم بعد الفلاح والملك والنّعـ … مة وارتهم هناك القبور

ثم أضحوا كأنهم ورق جفّ … فألوت به الصبّا والدّبور (عيون الأخبار)

ومن الاعتبار بالبيوت إلى الاعتبار بالجمال الذي ذهب والقوة التي ولت إلى غير رجعة، كم من صاحب بنيان جميل قوي كان يسحر العقول ويجعل القلوب تتوه ذهبت القوة ليحل محلها الضعف والعجز والحاجة إلى المساعدة من الآخرين، كان صاحب القوة يظن يوماً أنه سيخرق الأرض أو سيبلغ الجبال طولاً، لكن مرور الأيام والليالي كفيل بأن يبدد هذا الوهم، كلما رأيت شيخاً محني الظهر مستنداً إلى عصاه تخيلته أيام شبابه وعضلاته المفتولة وقوته الضاربة كيف ذهبت هذه القوة شيئاً فشيئاً بعد أن تكاملت شيئاً فشيئاً؛ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (الروم: 54)، وتخيلت كذلك أن هذا الرجل كان يشكر الله تعالى على نعمة القوة، فكان عوناً للمحتاج ونصيراً للضعيف لم يبغ على الآخرين مع قدرته على ذلك.

كلما رأيت امرأة مسنة امتلأ وجهها بالتجاعيد تخيلتها في أيام كانت تسير فيتابعها المعجبون بنظراتهم تختال أكثر وأكثر لتجذب إلى شباكها وتسيطر على أقوى الرجال وأعتاهم بنظرة منها أو تحتشم لتصون نعمة الله عليها وتشكره حق الشكر حين تكف العيون المتلصصة بحجابها، والحجاب أعم من أن يكون لباساً، إنه لباس وطريقة في المشي والكلام والمعاملة مع الناس.  

وما لنا ننظر إلى الأمور في نهايتها؛ لماذا لا نعيش اللحظة ونستمتع بما آتانا الله من بيوت جميلة ووجوه أجمل وأجساداً أقوى، ثم إذا جاء أوان التغير والذهاب فلكل حادث حديث؟!

إن ما سبق من أفكار ومشاهد ليكون استمتاعنا بالبيت والجسد وكل النعم أدوم وأبقى ليتجاوز هذا الاستمتاع حدود الدنيا ويعبر إلى الآخرة، نشاهد نعم الله تعالى علينا ونتنعم بها ونتذكر قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (الأعراف: 32)، كلما صنا النعم بقيت لنا ولذرياتنا من بعدنا، كلما استخدمناها فيما يرضي الله بقيت وزادت، كلما رجونا الله تعالى أن يعطي للمحرومين جاءتنا الزيادة، قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ دَعْوَةَ الْمَرْءِ مُسْتَجَابَةٌ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ، كُلَّمَا دَعَا لَهُ بِخَيْرٍ قَالَ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلِهِ” (مصنف ابن أبي شيبة)، كلما عرفنا حقوق الله تعالى في هذه النعم وأديناها حفظها الله تعالى لنا، كلما تأملنا ما بأيدينا من نعم فلم نتكبر على خلق الله تعالى وتواضعنا لهم رفعنا الله عز وجل مقامات عالية، فمن تواضع لله رفعه حتى يسكنه الفردوس، كلما نظرنا إلى هذه النعم وبقائها وزوالها تذكرنا ما عند الله تعالى؛ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 96)، وتذكرنا ما أعده الله لعباده الصالحين في الجنة مما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ من حياة لا يعقبها موت وصحة لا يصاحبها مرض وشباب لا يأتي بعده شيخوخة.

Exit mobile version