حرباء خضراء! (قصة قصيرة)

 

ثمة صراخ يدور في السماء، ينبح كلبنا الأبيض، التفت ناحيته فإذا به يحمل بين فكيه طائرا مقطوع الرأس؛ أمرتني أن أسرع خشية أن يكون مسموما.

قالت: ذلك الجار يقتل كل شيء.

  تشفق على الكلب أن يمسه السوء، لقد فقدنا الكثير منها، حين كانت موجودة كنا ننام مطمئنين أن الثعالب لن تهاجمنا، هذه الأيام بعد موت أبي بات البيت بلا سقف، حتى الزرع لا جذر له فهو واهن تذروه الريح، نصحتني كثيرا أن أنظر ما يفعله، يمكر بكل شيء؛ لم يبق لدينا غير ذلك الكلب الأبيض الوفي وجرو صغير جاءنا من مكان بعيد، أوصتني أن أحضر أنثى تلد وتمكث أمام البيت، فالأمهات يمكثن في الأرض، يملأن الأمكنة بركة.

 حدثتني عن لؤمه وكيف أن الغربان لا تنزل أرضه!

تحايلت حتى أخذت جثة الغراب من فم الكلب.

علقتها أعلى الشجرة؛ حتى يفزع الآخرون ولا يقتلعوا ما نغرس من حب، كم كان أبي -رحمة الله عليه- يتعب نفسه في مطاردتها!

أخبرني أن الأعور -وذلك لقبه- ناصح بقدر ما جعلهم يدعون عليه أن يفقد إحدى عينيه.

قديما كانت الغربان الماكرة تغافله ومن ثم لا تذر من غرس أتت عليه إلا جعلته حطب نار.

يزداد الصراخ فأمسك بعصا؛ خشية أن تؤذى الطيبة، يمتلئ الأفق بتلك الطيور السوداء؛ يكاد صدري يضيق.

يا ولدي إنها لن تتركه حتى تدفنه، ألم تسمع با بني آدم؟

أسترجع تلك القصة، ثمة طائرات تلقى كتلا من نار، حيث الصغار قطع متناثرة.

آخذ بيديها، يبدو أن خطرا يلوح شره من قريب، نسرع ونختبئ بين الأشجار، فحيح أفعى بالقرب منا، أهوي عليها بعصاتي فتلوذ بجحرها، حرباء فوق شجرة اليوسفي ذيلها يلتف دوائر بعضها داخل بعض، تتحين فرصة لتنال فريستها، سرب من نمل صحراوي ينتظم في سيره.

ترك الطيب جراحا لن تشفى؛ لم يملأ أحد ذلك الفراغ الذي احتوشنا، يبكيه الصغار كان الجذر لنا.

شيطان أعرفه، أخرج زيفه؛ تتكرر مأساة ابنيْ آدم.

يعاجلنا بالخروج من بيت الطيب، إنه يدعى تملكه؛ تتأوه أمي؛ ليتها ألقت به في نار تستعر.

أمسح دمعة تساقطت على خدي، أتذكر لؤمه؛ ما تزال الجراح تنزف؛ في تلك الليلة عاودتني الحمى؛ بدأ الهذيان يتملكني، لم تعد الأبواب في موضعها؛ برص يصدر صوته الكريه، فراشي مملوء بالإبر الصدئة، يطاردني الغراب المقطوع الرأس؛ يمثل لي في صورة عجيبة، يأمرني أن أخرج من حجرتي أن أحمل معي فأسا ثم آتي الشجرة فأنزله من فوقها؛ أكبر فوق رأسه الذي جاء بها، أن أدعو الغربان فتأتيني سعيا؛ لا يحتاج غير دعاء بأن ينتقم الله من جارنا الذي ذبحه.

أنظر في ساعتي فأجدها الواحدة بعد منتصف الليل، لا صوت غير نقيق الضفادع يتراتب في معزوفة كريهة، يتملكني الخوف، تنادي أمي من بعيد، أجيبها؛ تأمرني أن أتوضأ ثم أدع تلك الهواجس، يبدو أنها تقرأ في كتاب غاب عني؛ يقال إن العجائز يتصلن بأسباب القدرة الإلهية.

تقول لي: تلك الورقة المزيفة التي أخرجها أكلتها العثة؛ باتت أشبه بالغربال، لا تخشاه، ترفع يديها إلى السماء؛ يلهج لسانها بدعاء طيب؛ يهدأ قلبي ويطمئن.

يوما ستكون يا ولدي مباركا أين ذهبت.

أداعبها: لا تتعجلي الرحيل إليه؛ أوصاك أن تمكثي معنا دهرا، تشرد بنظراتها بعيدا، إنه يحاول أن يقتلع جذر أبيه؛ يلقي بالصغار بعيدا.

أتسامع صوت المذياع يردد: عائدون!

Exit mobile version