الدعاء للأبناء

 

يحب الإنسان أن تبقى ذريته في أحسن الأحوال ترث منه المال والمجد والحسب والنسب، وتنتقل إلى طبقة أعلى مما هي فيه، يسلك في ذلك عدة طرق، يعمل ليلاً ونهاراً، ينشئ شبكة علاقات اجتماعية يستعين بها على الوصول لأغراضه، ويحافظ على هذه العلاقات بما استطاع من قوة، لكن هناك وسيلة مهمة تسبق كل هذه الخطوات وترافقها وتأتي بعدها هي وسيلة الدعاء، وبين الدعاء والصيام علاقة وثيقة، فآية الدعاء جاءت بين آيات الصيام؛ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، و”للصائم عند فطره دعوة لا ترد”، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وخير الأدعية أدعية القرآن الكريم، ففيها خير الدنيا والآخرة، وقد دعا بها الأنبياء والمرسلون.    

وإذا نظرنا إلى أدعية القرآن التي تتعلق بالذرية نجدها تنقسم إلى نوعين؛ الأول: ما يتعلق بطلب وجود الذرية من الله تعالى، والثاني: ما يتعلق ببقاء هذه الذرية محفوظة برعاية الله وتوفيقه.

وجود الذرية

وطلب الذرية وسلوك الطرق المشروعة في طلبها أمر يتناسب مع الفطرة الإنسانية؛ {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14]، كما أن وجود الذرية يلبي حب البقاء في النفوس البشرية، فوجود الولد يعني بقاء اسمك لجيل قادم، ووجود الحفيد يعني بقاء اسمك لجيل ثان.. وهكذا.

الدعاء أحد أهم الأسباب التي يتخذها المسلم لبلوغ غاياته

لكن الله تعالى بحكمته ورحمته يعطي ويمنع، فقد تتوافر الأسباب ويلح العبد في الدعاء ومع ذلك يمنع الله تعالى عنه إنجاب الذرية، ولله تعالى الحكمة البالغة التي يمكن أن نفهم بعضها من خلال قوله عز وجل: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80]، فقد يأتي الولد ويجر والديه إلى الظلم والعدوان، يخطأ فيبرر الوالد خطأه ويدافع عنه، يأكل أموال الناس بالباطل فيحميه والده من أصحاب الحق، تجب عليه العقوبة بالحق فيجتهد في عدم تطبيقها، وهكذا يظل حب الوالد لولده ورغبته في بقائه حتى يظلم الناس ويأكل أموالهم بالباطل ويحمي عدوانه وإجرامه فيشاركه في أخطائه وذنوبه، عندما نرى مثل هذه الأحوال نوقن بحكمة الله تعالى في العطاء والمنع.

ثم هناك شيء آخر، أولئك الذين لم يرزقهم الله تعالى الأولاد يفتحون قلوبهم قبل بيوتهم لأبناء أسرهم وجيرانهم؛ فتجد لهم في قلوب البنين والبنات أعظم مكانة، وكثيراً ما تزيد على حبهم لآبائهم وأمهاتهم، ولن يكون ذلك إلا بتحقيق عبادة الرضا عن الله والرضا بأقداره سبحانه.

نأتي إلى أدعية القرآن بخصوص طلب وجود الذرية، فنجد عدة أدعية:

{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 100، 101]، {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38].

البعض يطلب الولد الصحيح البدن الجميل الصورة الذكي العقل صاحب القبول بين الناس، كل هذه مزايا، لكن ما الذي ينفعك أنت في الدنيا والآخرة من كل هذه المزايا وغيرها إذا كان هذا الولد فاسداً؟

الولد الصالح في الدنيا نعمة يشعر بفضلك عليه بعد الله تعالى، وتستمتع ببره، تجده قبل أن تحتاج إليه وتجد معه التقدير والاحترام والكلمة الطيبة والبسمة الرقيقة.

الولد الصالح سبب لرفعة شأن العائلة والأسرة، فكل نجاح يحققه هو إضافة لعائلته الصغيرة والكبيرة بل لوطنه وأمته.

أما في الدين، فبعد انقضاء العمر وانتهاء العمل يبقى باب للعمل الصالح هو الولد الصالح الذي يدعو لوالديه ويواصل بره بهما حتى بعد وفاتهما، قال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ” [صحيح مسلم]، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ  لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ” [مسند أحمد].

وكلما أحسن ولدك للناس دعوا لك لأنهم يعلمون أن هذا التصرف الجميل والخلق الكريم الذي يتعامل ولدك به إنما هو نتيجة لتربية حسنة قام بها الوالدان، ومما يعجبني أن يأتيك من يسألك والدي توفي فما العمل الذي ينفعه لكي أقوم به؟

أما الولد الفاسد فأذيته لوالديه في الدنيا قبل الآخرة؛ يعقهم فيحرمهم كل متع الدنيا، بل يحول دنياهم إلى جحيم مهما كان فيها من نعيم، ويضيع ما جمعوه من ثروة إما بالإتلاف أو بحرمان الفقراء حقوقهم، ويؤذي الناس فيلعنون والديه وأجداده ويهدم ما صنعه آباؤه من مجد.

الولد الصالح نعمة والولد الفاسد خسارة وشقاء في الدنيا والآخرة

أحد من أكلوا المال الحرام في ساعة الاحتضار يوصي أبناءه بترك هذا المال قائلاً: يا أولادي، هذا البيت ليس لكم، لم يفهم الأبناء ماذا يقصد الوالد بهذه العبارة، فهم الأكبر منهم بعد مدة فرد عليه قائلاً: ومن قال لك: أن تأكل المال الحرام؟ وتركه يتحسر على نفسه في لحظاته الأخيرة على ظهر هذه الدنيا.

الولد الفاسد سبب للشقاء؛ {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55].

أهمية الدعاء للأبناء

ومن النوع الثاني من الأدعية التي ندعوها لذرياتنا دعاء الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، إن إبراهيم عليه السلام هو داعية التوحيد في زمنه، وقد تعودنا أن نحسن الظن بأبناء أهل العلم ونتوقع منهم أن يكونوا على طريق آبائهم إن لم يكونوا أفضل، لكن الخليل عليه السلام ينبهنا إلى أهمية الدعاء للذرية بالعصمة من عبادة غير الله تعالى.

إننا نستحضر أهمية هذا الدعاء الآن وموجات الإلحاد تغزو عقول الشباب في العالم الإسلامي وتحول سلوكهم إلى ما لا نحب ولا نرضى، نستحضر أهمية رعاية دين أبنائنا قبل أن نرعى دنياهم.

إذا الإيمان ضاع فلا أمان           ولا دنيا لمن لم يحي دينا

نرعى دينهم فنسأل الله أن يحفظه عليهم ونرعاه حين نقترب منهم اقتراب المحب الشفيق الذي يحمل همّ حبيبه ويشاركه الآمه وآماله، نجيب عن هذا السؤال الذي ما زال يتكرر: من أحب إليك أخوك أم صديقك؟ قال: أخي إذا كان صديقي، ونجيب أيضاً: أبي إذا كان صديقي.

ولكي نحافظ على أبنائنا أيضاً ندعو الله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]، فبعد أن دعونا بسلامة العقيدة ندعو بالالتزام بأوامر الشريعة، هذا الدعاء هو تأكيد على امتداد الخير، في هذا النسل يقيم الإنسان الصلاة، ويسأل الله تعالى أن يبقى أبناؤه أيضاً يقيمون الصلاة، يحسن الإنسان إلى الناس، ويدعو الله تعالى أن يبقى أبناؤه يحسنون إلى الناس، وهكذا يستمر النسل حاملاً الاسم ورافعاً لراية الخير، إننا ندين لآبائنا وأمهاتنا بعادات الخير التي تعودناها، فذهابنا للمساجد أثر لاصطحابهم لنا.

وكلما امتد عمل الخير في ذرياتنا؛ نلنا نصيبنا من رضوان الله تعالى وفضله.

إن الدعاء أحد أهم الأسباب التي يتخذها المسلم لبلوغ غاياته، فعلينا أن ندعو الله بصدق من قلوبنا أن يهب لنا من الصالحين الطيبين، وأن يجعلنا من المقيمين الصلاة ومن ذرياتنا، إنه سميع الدعاء.

Exit mobile version