عندما يكون المفتي “قبورياً”!

 

أصدرت دار الإفتاء بإحدى الدول العربية هذه الفتوى المستنكرة “إن المسح على قبور الأنبياء والصالحين وتقبيلها من باب التبرك بها وتعظيم أصحابها جائز شرعاً”.

وللوقوف على بطلان هذه الفتوى، نستعرض أقوال العلماء في حرمة هذا الأمر العَقَدِي، ونرد على الشبهات التي أوردها هؤلاء للتدليل على فتواهم الشاذة.

أولاً: أقوال علماء السلف والخلف في التمسح بالقبور

اتفقَ علماءُ المسلمين على تحريم التمسُّح بالقبور، أو تقبيلها، أو تمريغ الخدِّ عليها، ولو كان ذلك من قُبور الأنبياءِ عليهم السلام([1])، وقال عبد الله بن الإمام أحمد: (حدثني أبي قال: سمعتُ أبا زيد حمَّاد بن دليل قال لسفيان – يعني ابن عيينة – قال: كان أحدٌ يتمسَّحُ بالقبرِ؟ قال: لا، ولا يلتزمُ القبر)([2])، وقال ابنُ قدامةَ: (ولا يُستحبُّ التمسُّحُ بحائطِ قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا تقبيلُهُ، وقال الإمام أحمد: ما أعرفُ هذا، وقال الأثرم: رأيتُ أهلَ العلم من أهل المدينة لا يمسُّون قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم)([3]).

وقال السمهودي الشافعي: (قال الأقشهري: قال الزعفراني في كتابه: وضع اليد على القبر ومسّه وتقبيله من البدع التي تُنكرُ شرعاً، ورُويَ أن أنس بن مالك رضي الله عنه رأى رجلاً وَضَعَ يده على قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم فنهاه، وقال: “ما كُنَّا نعرفُ هذا على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وقد أنكره مالك والشافعي وأحمد أشدّ الإنكار)([4])، وقال أبو بكر الطرطوشي المالكي: (ولا يُتمسَّحُ بقبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُمسُّ)([5])، وقال عبدالقادر الجيلاني: (وإذا زارَ قبراً لا يَضعُ يدَهُ عليه، ولا يُقبِّلُه، فإنه عادة اليهود)([6])، وقال الإمام النووي الشافعي: “لا يجوزُ أن يُطافَ بقبرهِ صلى الله عليه وسلم، ويُكرهُ إلصاقُ الظهرِ والبطنِ بجدارِ القبرِ”، وقال ابنُ الحاج المالكي: “فترى مَن لا علم عنده يطوف بالقبر الشريف كما يطوف بالكعبة الحرام، ويتمسَّح به، ويُقبِّلُه، ويلقون عليه مناديلهم وثيابهم، يقصدون به التبرُّك، وذلك كلُّه من البدع، لأن التبرُّك إنما يكون بالاتباع له عليه الصلاة والسلام، وما كان سبب عبادة الجاهلية للأصنام إلاَّ من هذا الباب”([7]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “واتفقَ العلماءُ على أنَّ مَن زار قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو قبرَ غيرِه من الأنبياءِ والصالحينَ -الصحابةُ وأهلُ البيتِ وغيرُهُم-أنه لا يَتَمَسَّحُ به ولا يُقبِّلُهُ”([8])، وقال أيضاً: “وأمَّا التمسُّح بالقبرِ أيَّ قبرٍ كانَ، وتقبيلُه وتمريغُ الخدِّ عليه، فمنهيٌّ عنه باتفاقِ المسلمينَ ولو كان ذلك من قُبورِ الأنبياءِ، ولم يفعل هذا أحَدٌ من سَلَفِ الأُمَّةِ وأئمَّتِهَا، بل هذا من الشركِ”([9]).

وقال أيضاً: “واتفقَ العلماءُ على أنهُ لا يُستحبُّ لمن سلَّم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم عندَ قبرهِ أن يُقبِّلَ الحُجرةَ، ولا يتمَسَّحَ بها، لئلاَّ يُضاهيَ بيتُ المخلُوقِ بيتَ الخالقِ، ولأنهُ صلى الله عليه وسلم قال: “اللهُمَّ لا تجعل قبري وثناً يُعبدُ”([10])، وقال صلى الله عليه وسلم: “لا تتخذوا قبري عيداً”([11])، وقال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ من كانَ قبلكم كانوا يَتخذونَ القبورَ مساجدَ، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجدَ فإني أنهاكُم عن ذلك”([12])، فإذا كانَ هذا دين المسلمين في قبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي هو سيِّدُ ولَدِ آدمَ فقبرُ غيرهِ أولى أن لا يُقبَّلَ ولا يُستلمَ”([13]).

وقال ابن القيم رحمه الله عن التمسح بالقبور وتقبيلها والطواف حولها: “قال شيخنا قدَّس اللهُ روحه: وهذه الأمور الْمُبتدعة عند القبور مراتب: أبعدها عن الشرع: أن يسألَ الميتَ حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس، قال: وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام، ولهذا قد يتمثَّلُ لهم الشيطان في صورة الْميِّت، أو الغائب، كما يتمثَّل لعُبَّاد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب يدعو أحدهم مَن يُعظِّمُه، فيتمثَّل له الشيطان أحياناً وقد يُخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وكذلك السجود للقبر، والتمسُّح به، وتقبيله”([14])، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: “التبرُّك مثل المسح، هذا نوع شرك خفي، فإنه عبادة ووسيلة إلى شرك وذريعة إليه”([15]

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حماد العمر رحمه الله في ذكره للأمور المحرَّمة عند القبور: “وأقبح من ذلك: التمسُّح بها، والطواف بها، قصداً للتبرُّك ونحو ذلك، فقد اتفقَ العلماءُ على منع ذلك واعتباره من أعظم وسائل الشرك الأكبر، مع ما فيه من مُخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والبُعد عنها، والإثم المترتب على ذلك”([16])

وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: “التبرُّك بقبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم وغيره من البقاع والأشجار والأحجار أمرٌ مُستقبحٌ وليس مستحسناً إلا عند الجهال والقبوريين، وهو شركٌ بالله لكونه تعلُّقاً على غير الله، وطلباً من غيره، ولَما رأى بعض الصحابة وكانوا حدثاء عهد بالإسلام أن المشركين يتبركون بشجرة، وطلبوا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم شجرة مثلها يتبركون بها، استنكرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك استنكاراً شديداً، وقال: “قُلتُم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) الأعراف: 138، فدلَّ هذا الحديث على أن مَن يتبرَّك بشجرة، أو حجر، أو قبرٍ، أو بقعةٍ، فقد أشركَ بالله، واتخذ الْمُتبرَّك به إلهاً”([17]).

فتوى دار الإفتاء المصرية

وهذه فتوى دار الإفتاء المصرية قديماً في حكم التمسح بالقبور: “إننا لا نمنع أحداً من زيارة القبور على الوجه المعروف في كتب السنة، ولكن الغلو في ‌التمسح ‌بالقبور والصلاة عندها والطواف عليها وغير ذلك مما يأتيه الجهلة وينكره عموم العلماء وعلى الأخص علماء مصر لا يسعنا إلا تنبيه الجهلة وإيقافهم عند حد الشريعة، وذلك قياما بما يفرضه علينا الدين من إبداء النصيحة لإخواننا المسلمين”([18]).

ثانياً: روايات واهية والرد عليها

فإن قيل: رُويَ أنَّ (بلالاً رضي الله عنه رأى في منامه النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يقولُ له: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أمَا آنَ لَكَ أن تزورني يا بلال، فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركبَ راحلَتَهُ وقصَدَ المدينة، فأتى قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فجعلَ يَبكي عنده، ويُمرِّغُ وَجْهَهُ عليه، وأقبلَ الحسن والحسين فجَعَلَ يَضُمُّهما ويُقبِّلُهما، فقالا له: يا بلالُ نشتهي نسمعَ أذانك الذي كُنتَ تُؤذنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السَّحَر، ففَعَلَ، فَعَلا سطحَ المسجد، فوَقَفَ موقفه الذي كان يقفُ فيه، فلما أن قال: «الله أكبر الله أكبر» ارتجَّت المدينة، فلما أن قال: «أشهد أن لا إله إلا الله» زاد تعاجيجُها، فلمَّا أنْ قال: «أشهدُ أن محمداً رسولُ الله» خَرَجَ العواتقُ من خُدورهنَّ فقالوا: أَبُعِثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ فما رُئيَ يومٌ أكثر باكياً ولا باكيةً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم)([19]).

فالجوابُ: أن هذا الأثر المذكور عن بلال رضي الله عنه ليسَ بصحيحٍ عنه… وهو أثرٌ غريبٌ مُنكرٌ، وإسنادُه مجهولٌ، وفيه انقطاعٌ([20])، وقال الذهبيُّ: “إسناده ليِّنٌ، وهو مُنكرٌ”، وقال ابنُ حجر: “هذه قصَّةٌ بيِّنةُ الوضع”([21]).

فإن قيل: روى الإمام أحمد عن كثير بن زيدٍ عن داودَ بنِ أبي صالحٍ قالَ: أقبلَ مروانُ يوماً فوجدَ رجلاً واضعاً وجههُ على القبرِ، فقالَ: أتدري ما تصنعُ، فأقبلَ عليهِ فإذا هو أبو أيوب، فقالَ: نعم، جئتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولم آتِ الْحَجَرَ، سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: “لا تبكُوا على الدِّينِ إذا وليَهُ أهلُهُ، ولكن ابكُوا عليهِ إذا وليهُ غيرُ أهلهِ”.

فالجوابُ: أنَّ الحديثَ ضعيفٌ، فيه داود بن أبي صالح، وقد قال عنه الذهبيُّ: (حجازيٌّ لا يُعرف)([22])، ووافقه ابنُ حَجَر([23]).

وقال الألبانيُّ: “وقد شاعَ عند المتأخرين الاستدلال بهذا الحديث على جواز التمسُّح بالقبر، لوضع أبي أيوب وجهه على القبر، وهذا مَعَ أنه ليس صريحاً في الدلالة على أن تمسُّحَهُ كان للتبرُّك كما يَفعلُ الجهال، فالسندُ إليه بذلكَ ضعيفٌ.

 

 

 

 

 

 

 _________________________________________________

[1] – يُنظر: المغني 3/ 299، مجموع فتاوى ابن تيمية 27/ 31، الصارم المنكي ص446، شفاء الصدور ص80.

[2] – كتاب “الإخنائية أو الرد على الإخنائي” – المؤلف: ابن تيمية – المحقق: أحمد بن مونس العنزي – ص415-416 – أصل هذا الكتاب رسالة ماجستير.

[3] – المغني 5/ 468.

[4] – “وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى” لعلي بن عبد الله بن أحمد الحسني الشافعي، الملقب بــ “نور الدين أبو الحسن السمهودي” (المتوفى: 911هـ) 4/ 552.

[5] – كتاب الحوادث والبدع ص304.

[6] – الغنية لطالبي طريق الحقِّ عزَّ وجلّ 1/ 91.

[7] – كتاب المدخل – المؤلف: أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج (المتوفى: 737هـ) – 1/ 256.

[8] – مجموع الفتاوى 27/ 79.

[9] – المصدر السابق 27/ 91-92.

[10] – أخرجه البخاري (437)، ومسلم (530)

[11] – أخرجه أبو داود (2042) واللفظ له، وأحمد (8790) – صححه الألباني وقال: صحيح بطرقه وشواهده

[12] – صحيح مسلم – تحت رقم: 532

[13] – مجموع الفتاوى 26/ 97.

[14] – كتاب “إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان” – المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) المحقق: محمد حامد الفقي – 1/ 200.

[15] – مجموع فتاويه 1/ 133 رقم 64.

[16] – الإرشاد إلى توحيد رب العباد ص94-95.

[17] – مجلة البحوث الإسلامية 24/ 135-136.

[18] – فتاوى دار الإفتاء المصرية – المفتي: سماحة الشيخ عبد الرحمن قراعة – رحمه الله – شوال 1344هـ – مايو 1926م.

[19] – تاريخ مدينة دمشق 7/ 137.

[20] – كتاب “الصَّارِمُ المُنْكِي في الرَّدِّ عَلَى السُّبْكِي” – المؤلف: شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي (المتوفى: 744هـ) تحقيق: عقيل بن محمد بن زيد المقطري اليماني – ص312.

[21] – تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 1/ 24

[22] – ميزان الاعتدال في نقد الرجال 3/ 14 رقم 2620.

[23] – تهذيب التهذيب 2/ 116 رقم 2113.

Exit mobile version