أزمة الدراما الرمضانية.. انحراف البوصلة والقيم والتمويل

 

هل بات شهر رمضان موسم الدراما العربية السنوي؟

نطرح هذا السؤال، ونحن نرى تنافساً محموماً لعرض المسلسلات الجديدة في الشهر الفضيل، بتسابق بين الشركات المنتجة، والمحطات الفضائية العارضة، مع رفع بعضها شعار «حصري» (Exclusive)؛ جذباً للمزيد من الإعلانات؛ ما أفقد شهر رمضان إيمانياته، وللأسف هذا تقليد مترسخ منذ بدء إرسال التلفزيونات العربية في حقبة الستينيات، مع الأخذ في الحسبان الاختلافات بين ما كان من مسلسلات قديماً، وما صرنا إليه حديثاً.

لم يقتصر الأمر على المسلسلات الدرامية، بل امتد إلى البرامج الحوارية التي تستضيف النجوم بمبالغ طائلة في مقابل ظهورهم، ناهيك عن برامج المقالب والمواقف الكوميدية المفتعلة، ولعل أشهرها برنامج “رامز موفي ستار”، الذي يقدمه رامز جلال، الذي تبلغ ميزانيته 10 ملايين دولار(1)، وهو مبلغ هائل، قياساً على سوق الإنتاج العربي، كل هذا من أجل تشويق المشاهدين، لتتصلب عيونهم، وتتلهف قلوبهم على حلقاته المشاغبة كل يوم، في تصارع مع صنّاع المسلسلات الذين يمعنون في دراما الحب ومشكلات الأسرة، وما يتفرع عنها من خيانة زوجية، وعلاقات محرمة، ناهيك عن موضوعات البلطجة، بحوارات ممعنة في انحدارها إلى لغة الشارع الركيكة.

يتم كل هذا تحت شعار «سَلِّ صيامك»، وكأنه لا تسلية إلا بالعكوف على التلفاز، فتنشغل الأفئدة، ويصبح الصيام عبئاً نفسياً، وليس راحة روحانية.

بداية، نؤكد في هذا المقال أننا لا نرفض الدراما والبرامج وما شابهها، وإنما ننادي بتصحيح البوصلة، ومراعاة خصوصية رمضان، بأن تكون موضوعات الدراما متفقة مع أجواء الإيمان والعبادة؛ فأهلاً بالمسلسلات التاريخية والدينية والاجتماعية، على أن تكون قليلة العدد، وليس بهذا الكم الهائل المنتج، حيث تشير الإحصاءات إلى أنه تم إنتاج 24 مسلسلاً في مصر وحدها، للعرض في رمضان 1443هـ/ 2022م(2)، بتكلفة إنتاجية تصل إلى مليار وثمانمائة مليون جنيه(3)، يوازيها 13 مسلسلاً خليجياً، تتنافس على شاشات فضائيات الخليج(4)، والغريب أنه لا يوجد في القوائم المعلنة أي مسلسل ديني، سواء عن تاريخ الإسلام أو أحداث السيرة النبوية، أو شخصيات إسلامية علمية أو دعوية أو جهادية، والسبب ببساطة انسحاب التلفزيونات الحكومية من التمويل، واقتصار الإنتاج على الشركات الخاصة، التي تبيع حق العرض لدى المحطات الفضائية، ووكلاء الإعلانات، قبل بدء التصوير، ولذا يراهنون على مشاهير النجوم بأجور خيالية، وبموضوعات شعبوية، لا تضع القيم ولا الأخلاق في أجندتها، وإنما تكرّس الأفكار الرخيصة والمكررة.

إن سوق الدراما العربية ينحدر منذ عقود، ففي الماضي كانت محطات التلفزيون الحكومية تحرص على إنتاج مسلسلات دينية وتاريخية واجتماعية، تنتصر للقيمة والفضيلة، فالتلفزيون كان وسيلة التسلية الأساسية للأسرة؛ وما زلنا نتذكر مسلسل «محمد رسول الله» في أجزائه الخمسة الذي أنتجه «التلفزيون المصري»، وعُرض لسنوات متتابعة خلال حقبة الثمانينيات (1980-1985م)، وكان مأخوذاً عن روايات الكاتب الإسلامي عبدالحميد جودة السحار، وأخرج أجزاءه أحمد طنطاوي، ثم أحمد توفيق، ثم نور الدمرداش، وكان ذا تمويل ضخم، وقدّم السيرة النبوية منذ قبل الإسلام حتى فتح مكة؛ بجانب إنتاج عشرات المسلسلات التاريخية المتميزة طرحاً وفكراً وفناً، مثل مسلسل «عمرو بن العاص» (1983م)، ومسلسل «رجل الأقدار» عن شخصية عمرو بن العاص أيضاً، الذي قام ببطولته نور الشريف (2003م)، ومسلسل «القضاء في الإسلام» الذي أُنتِج في جزأين (1987، 1989م)، ناهيك عن المسلسلات السورية الرائعة مثل مسلسل «صلاح الدين الأيوبي» (2001م)، ومسلسل «عمر» (2012م)، الذي كان إنتاجاً عربياً مشتركاً.

ثورة المشاهدين

وتكمن المفارقة في الدراما الرمضانية هذا العام (2022م)، أنها وصلت -في كثير منها- إلى إسفاف كبير على مستوى المضمون والحدث والقضايا المطروحة، مما أدى إلى ثورة المشاهدين أنفسهم، وبعضهم دشّن «هاشتاجات» الرفض والمطالبة بالمنع على شبكات التواصل الاجتماعي، ولعل أبرزها مسلسل «انحراف»، وعنوانه دال على مضمونه، حيث يتحدث عن صراعات أحد رجال الأعمال، وفيه كم كبير من مشاهد العنف والدماء، كما هو في مشهد قتل الفتاة «حور»، ورغم أن قصة المسلسل مأخوذة من الواقع، فإننا نجد في المسلسل تعمداً لتشويه صورة المجتمع العامة، في سياق أحداث درامية، تتوسل بالتشويق المفتعل، المليء بالغموض، من خلال عرض انحراف شخصيات في القصة (أخلاقياً ونفسياً) عن الطبيعة البشرية.

وتبدو ثيمة البلطجة في مسلسل «توبة»، من بطولة عمرو سعد، وأحداثه تتخذ من مدينة بورسعيد ميداناً لها، وكالعادة يمتلئ المسلسل بجمل حوارية سوقية، تُظهر شباب بورسعيد كأنهم بلطجية، وبناتها مبتذلات، وهم يعملون في أسواق المدينة مثل سوق السمك، وسوق «الكانتو» الملابس المستعملة، ويركبون التوكتوك، وقد ثار أهل بورسعيد ضد المسلسل، نافين وجود التوكتوك والكانتو في مدينتهم، وقالوا: إن المسلسل يمكن أن يدور في منطقة عشوائية منحطة، لكن لا ينطبق على بورسعيد.

وتشتد الأزمة في مسلسل «دنيا تانية» من بطولة ليلى علوي، فقد تم إيقاف عرضه بعد الحلقة الأولى لتضمنه قضية «زنى المحارم»، بعرض مشاهد لها، ونفس الأمر مع مسلسل «فاتن أمل حربي»، من تأليف إبراهيم عيسى، الذي يطرح قضية ولاية الأطفال عند طلاق الأبوين وإسقاط حضانة الأم للأبناء إذا تزوجت من آخر، عبر تشويه صورة علماء المسلمين، وإظهارهم بصورة المتجمدين عند آراء فقهية بعينها، يرددونها كأنها مسلَّمات لا تقبل النقاش، ودون سند قرآنيّ، وردّدت بطلة المسلسل نيللي كريم مقولات علمانية، تسخر من الفقه الموروث، والسُّنة النبوية ذاتها، مما دعا شيخ الأزهر إلى إصدار بيان ضد هذا الغلو العلماني.

جدير بالذكر أن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر شدّد في بيان له -صدر قبل رمضان بأشهر- على ضرورة الالتزام بالكود الإعلامي باحترام عقل المشاهد، والحرص على قيم وأخلاقيات المجتمع، دون اللجوء للألفاظ البذيئة والحوارات المتدنية والسوقية، والتوقف عن تمجيد الجريمة، بدعوى أن هذا هو الواقع، وضرورة خلو المسلسلات من العنف غير المبرر، ومن مشاهد الحض على الكراهية والتمييز، وتحقير فئات اجتماعية، ونبه إلى إظهار المرأة بصورة إيجابية، دون الإثارة الجنسية قولاً أو تجسيداً(5)، ولكن لا حياة لمن تنادي.

«شارع الهرم» و«فتح الأندلس»

وإذا نظرنا إلى خريطة الدراما العربية، فإن المسلسل الخليجي «من شارع الهرم إلى..»، يأتي في قائمة المسلسلات الأكثر جدلاً، وقد تم تصويره في الإمارات العربية المتحدة، وتدور أحداثه المفترضة في الكويت، حول أسرة الطبيبة «عبلة» التي يعمل جميع أعضائها في السلك الطبي، ويعيشون تحت سقف واحد، وتفرض عبلة شخصيتها وقوانينها عليهم؛ ما أفقد أفراد الأسرة خصوصيتهم واستقلالهم، وتكون المفاجأة في قدوم راقصة لتحيي حفل زفاف الابن داخل المنزل؛ حيث تبدأ بإثارة شك الوالدة مما تنكشف العديد من الأسرار التي تتعلق بما يخفونه في أعماقهم، وفي المسلسل إشارات إلى مشكلة المثلية الجنسية، والخيانة، والدياثة الزوجية، بجانب الفساد الطبي، والاستغلال للمرأة الضعيفة، وتسليع جسدها.

وفي المغرب العربي، نجد المسلسل التونسي «براءة» يتعرض إلى الزواج العرفي -الممنوع قانوناً في تونس- بوصفه حلاً واقعياً للعلاقات السرية بين الجنسين، ونفس الأمر نجده في المسلسل الجزائري «حب الملوك»، الذي تأثر بالموجة المشرقية، من خلال عرض بعض المشاهد غير الأخلاقية.

ومن المفيد في هذا السياق أن نشير إلى تعمّد شركات الإنتاج الخاصة افتعال حالات من الإثارة والجدل في المسلسلات التي تنتجها، على صعيد الأحداث والمشاهد والحوارات، أملاً في نسبة كبرى من المشاهدين، بل وصل الأمر إلى غض هذه الشركات الطرف، وسكوتها عن الرد عن أي شكاوى، أو هجوم على المسلسلات، رغبة في تسابق الناس لمشاهدتها على المنصات الإلكترونية، عملاً بقاعدة «الممنوع مرغوب»، يأتي كل هذا في غياب الرقابة الحكومية، ومن قبلها التمويل الحكومي للأعمال الجيدة، التي ستكون طاردة بلا شك لكل ما هو رديء.

وختاماً، نؤكد أنه لا توجد أي إشكالية في تناول المسلسلات العربية لموضوعات اجتماعية وواقعية، شريطة أن يكون الالتزام الخلقي والقيمي والأدائي سبيلاً لها، دون ابتذال في الطرح، بعرض مشاهد ساخنة، وأقوال ماجنة، وإنما يكون التناول في إطار فكري راق، دون تهويل، ووفق رؤية إصلاحية سامية الغاية، ووفق تقاليد المجتمع المسلم وأخلاقه النابعة من الإسلام والعروبة.

 

 

 

 

 

 

______________________________________________________________

(1) أحداث نت، https://ahdathnet.com/news79337.html

(2) وفقاً لموقع مصراوي https://www.masrawy.com/arts/tv-theater/details/2022/1/14/2158594/

(3) جريدة الوفد القاهرية، https://alwafd.news/article/1884310

(4) جريدة الشرق، https://asharq.com/ar/5jvZngb6zTkx9xFO5kobHw-13- /

(5) موقع اليوم السابع https://www.youm7.com/story/2022/3/20

Exit mobile version