العولمة وتهديد المهارات الحضارية للأمم والشعوب

 

نلقي الضوء في هذه المقالة على التهديدات التي تمثلها العولمة على الخصائص الحضارية للأمم والشعوب، والحضارة كما تضم الأرصدة المعنوية من معتقدات وقيم وأفكار، فإنها كذلك تضم الأرصدة المادية من مهن وحرف وصناعات، بل إن هذه الأرصدة المادية تشكل بصورة أو بأخرى ارتباطاً معنوياً حضارياً بثقافات الأمم المختلفة.

يعد التحول إلى الاقتصاد الرأسمالي أهم جوانب المشروع الاقتصادي للعولمة الذي بدأ في التحويل إليه قسراً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي (1989م) وانفراد أمريكا بالعالم اقتصادياً؛ فالعالم يتحرك –قسراً- نحو نموذج اقتصادي واحد هو النموذج الرأسمالي أو الاقتصاد الحر، الذي يقوم على اعتبار السوق وما يطرح فيه نظاماً اقتصادياً عالمياً يجب أن يدخل العالم فيه عن طريق المفهوم المسمم «التنمية».

من ناحية أخرى، تعد الشركات متعدية الجنسية أو العابرة للقوميات الأداة الرئيسة للعولمة الاقتصادية، فبواسطتها تتم عملية تدويل، أو الأصح عولمة رؤوس الأموال والإنتاج والتصريف ومجمل العمليات المالية والتجارية(1)، وبذلك؛ فإن الشركات متعدية الجنسية التي يتربع على عرشها كهان الأممية المالية تمثل النواة الصلبة للرأسمالية العالمية، فحوالي 37 ألفاً من هذه الشركات مع فروعها 170 ألفاً المنتشرة في جميع أرجاء المعمورة هي الماسكة منذ مطلع التسعينيات بتلابيب الاقتصاد العالمي، فملياراتها العابرة للقارات بسرعة الضوء تحدد أسعار الصرف الأجنبي، وكذلك القوة الشرائية لهذا البلد أو ذلك، ولعملته إزاء بقية عملات العالم، وهي موزعة جغرافياً بين البلدان التالية: اليابان 62 شركة، الولايات المتحدة الأمريكية 53، ألمانيا 23، فرنسا 19، بريطانيا 11، سويسرا 8، كوريا الجنوبية 6، إيطاليا 5، هولندا 4(2).

التوجه نحو اقتصاد السوق المصاحب للرأسمالية يمهد لأنماط من الثراء والفقر كذلك

إن التوجه نحو اقتصاد السوق، المصاحب للرأسمالية التوربينية(3) يتجه لخلق أنماط معينة من الثراء ومن الفقر كذلك، ويتضح ذلك من خلال خارطة العالم الاقتصادية التالية(4):

– 20% من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي؛ فخمس قوة العمل سيكفي لإنتاج جميع السلع، ولسد حاجات الخدمات الرفيعة القيمة التي يحتاج إليها المجتمع العالمي.

– انخفاض النسبة التي يشارك بها أصحاب رؤوس الأموال والثروة في تمويل المشاريع الحكومية، وفي الناحية الأخرى؛ فإن الموجهين للتدفقات العالمية لرأس المال يخفضون باستمرار مستوى أجور عمالهم.

– تقليص فرص العمل وتسريح للأيدي العاملة، مما يؤدي إلى تفاقم البطالة وفي خفض عدد المستهلكين، فحيثما تجري المتاجرة بالبضائع والخدمات عبر الحدود الدولية بكل حرية، تعصف بالعمال بلا هوادة، بما يمثل فقدان العمل البشري لقيمته وفي ترشيد يقضي على فرص العمل.

– تنشأ من عملية العولمة ثلاثة مصادر للصراع: أنها تضعف من قدرة العمال على المساومة في أسواق العمل، وأنها تقود المؤسسات الاجتماعية إلى التدهور، وأنها تعوق الحكومات عندما تواجه مسألة التخطيط لنظم مالية حكومية(5).

تعيد تنظيم العمل

في ضوء معالم هذا المشروع الذي تحول إلى واقع خلال العقدين الأخيرين، أعادت العولمة تنظيم شكل العمل المعاصر بما يتفق مع تحقيق أهداف مشروعها (السوق) الكبير، الذي يختفي فيه صغار العمال وصغار المصانع وصغار المشروعات، وكذلك تختفي فيه المهن الحضارية للأمم والشعوب، التي يتم استبدال التكنولوجيا بها التي تؤسس لمنتجات جديدة على حساب المنتجات الحضارية، وتؤسس لعمل جديد، على حساب العمل الأصيل، وتلغي أدواراً اجتماعية واقتصادية للعمل المحلي (الحضاري)، في مقابل الترجيح للأعمال التي تنشط السوق الرأسمالية وتحقق لها مزيداً من التراكم المالي للشركات المتعددة الجنسيات ونسبة الـ20% من الرأسماليين في العالم.

العولمة أعادت تنظيم شكل العمل المعاصر بما يتفق مع أهداف السوق الكبيرة

إن الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، في إطار تنظيمها للعولمة الاقتصادية، عولمت -أيضاً- المهارات والعمالة، وثمة ما يشبه التقسيم العالمي للعمل، وكان لهذه الشركات العملاقة بعد النمو العولمي المتعاظم قوة فائقة في السيطرة على حركة الاقتصاد العالمي، ومن ثم إرساء قواعد التقسيم العالمي للعمل والاقتصاد، وعولمة المعرفة والمهارات والتعليم العالي والعمالة(6)

إن العولمة أصبحت تغرس بذور مهارات جديدة، تنتشر بسرعة عبر العالم، وتسهل الترويج لمنتجاتها بديلاً للمنتجات الأصيلة “الحضارية” لمناطق العالم المختلفة، وفي ضوء ذلك تفقد تلك المجتمعات الحضارية كل مهاراتها الحضارية، وتتحول إلى أرض بلا مهارات حضارية، وإلى شعوب بلا هوية مهارية، ومن ملامح ذلك في المجتمع المصري، على سبيل المثال:

– هجرة القرويين (المزارعين) إلى أوروبا وأمريكا وبيع أراضيهم الزراعية لتتحول رويداً رويداً إلى أبراج سكنية باهظة التكاليف، وبلا سكان ملائمين، بينما يعمل هؤلاء القرويون في أعمال هامشية لا يتكسبون من خلالها أي مهارات يعودون بها إلى أوطانهم بالنفع أو التطوير أو التحسين، والعائد الوحيد هو تراكم رأسمال لدى فئة ليست لديها خبرة ولا عقلية استخدامه في الواقع الخاص أو الواقع المحلي؛ فتتضخم الحياة اليومية، وتتبدل التقاليد لصالح رأس المال.

الشركات متعددة الجنسيات عولمت المهارات والعمالة أيضاً بإطار تنظيمها للعولمة الاقتصادية

– اندثار الصناعات المحلية التي كان يعمل فيها قطاع الشباب –الذي يمثل قاعدة الهرم السكاني- في مقابل الاستبدال بها ما يخدم منتجات العولمة؛ فيتم إنشاء محلات الهواتف المحمولة والإكسسوارات اللازمة لها بدلاً من ورش “الأثاث” في مدينة دمياط، المدينة التاريخية لصناعة الأثاث، ومن ثم تضيع أسرار تلك المهنة مع الجيل القديم، بينما ينشغل الشباب بأنواع الهواتف المحمولة.

– كما تنشغل كليات الهندسة بتوفير العاملين على تصليح وتشغيل السيارات والأجهزة الكهربائية التي تنتجها الشركات العالمية التي تصدر لنا منتجاتها سنوياً، ودون التفكير في استئناف صناعات محلية وبناء شبكة مهارات من العمال والمتعلمين حولها.

– تراجع إقبال النشء على تعلم الحرف والمهن الحضارية في إجازة الصيف الدراسية، كما كان ديدن المجتمع المصري، واستبدال ذلك بجاذبيات العولمة والإنترنت ومتابعة المباريات والدوريات العالمية بعد التركيز الإعلاني والإعلامي عليها وتسهيل سبل الوصول إليها، بما أدى إلى إفراغ عقول الأجيال من متابعة الارتباط الحضاري بالمهن والمهارات والحرف الوطنية والحضارية، والرغبة الدائمة في الهجرة الخارجية لجني رأس المال.

من ناحية أخرى، استقطبت العولمة في ظل جاذبيات الهجرة إلى أوروبا وأمريكا المبدعين والمهرة والمتفوقين –عبر الهجرة المنظمة التي تطرحها كل عام هذه الدول- بهدف تدريبهم على نوعية المهارات المطلوبة وقيم العمل الجديد، وقد ساعدت الشركات الاقتصادية العملاقة -التي تستقطب جزءاً كبيراً من المهاجرين- أوطانها الأصلية على أن تظل هي المكان الرئيس لتنمية إستراتيجيات التنسيق والاندماج والعمل العقلي، مع الاستمرار في البحث عن مناطق يتم فيها الإنتاج العالي الجودة وفق المهارات العالمية المطلوبة، مع تكلفة أقل في الأجور والعمالة والإنتاج، وهو ما يعرف بالاستثمار الأجنبي أو التوكيلات العالمية.

التعليم وخدمة العولمة

في إطار عولمة المهن والمهارات الحضارية –كما تقدم- أصبح التعليم في مجتمعاتنا العربية رهين المحبسين؛ محبس العولمة ومشروعها القسري الضاغط الذي يريد أن تتحول مؤسسات التعليم إلى ممهدات للعقول لاستقبال أفكار السوق، والإعداد والتهيؤ لقبول منتجاته والترويج له، ومحبس غياب تخطيط إستراتيجي واضح لخطط النهوض الحضاري الذاتي، ومن ثم تحول التعليم كما يذكر «تقرير المعرفة العربي» لعام 2014م، إلى منصة لإطلاق قوة العولمة داخل البلدان العربية، من خلال بناء كوادر بمواصفات عالمية جديدة.

لقد أوجدت العولمة محددات جديدة أمام الجامعات ومراكز البحوث، لا تتعلق بنقل أو توطين المعرفة، بل ببناء معايير لبرامج عالمية معولمة بهدف تدويل الجامعات، وخلق آليات لظهور الطبقية والتمييز في التعليم، بل والانفصال في كثير من الأحيان عن هموم الوطن واحتياجاته المحلية، والمنطقة العربية تأثرت بشكل واضح بحركة التدويل الجامعي وعولمة المهارات بكل ما لها وما عليها(7).

في ظل هذا التهديد للمهارات الحضارية، تحتاج مجتمعاتنا إلى المحافظة على تلك المهارات، فضلاً عن تطويرها من أجل تحقيق الاستمرار لها، في ضوء هذه المخاطر المتعددة الجوانب والمنافذ، وإن هذا المشروع يحتاج إلى إستراتيجية قريبة الأجل ومتوسطة وبعيدة، يتم من خلالها وضع رؤية لوقف نزيف تلك المهن، ثم بناء أطر لتطويرها حتى لا تندثر، وهذا لا يكون إلا من خلال بناء جامعات شعبية يتفق على سياستها وتصورها المتخصصون في تلك المهن وعلماء الاجتماع.

 

 

 

 

______________________________
(1) محمد دياب: «عولمة الاقتصاد»، مجلة العربي، الكويت: وزارة الإعلام، العدد 494، ص 39.
(2) الحبيب الجنحاني: «ظاهرة العولمة: الواقع والآفاق»، مجلة عالم الفكر، مج28، العدد الثاني، ص 28.
(3) استخدم هذا المصطلح الاقتصادي الأمريكي إدوارد لاتويك، الأهرام الاقتصادي، العدد 1616، ديسمبر 1999.
(4) هانس – بيترمارتين، هارالد شومان، فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، عالم المعرفة عدد (238)، ص 26، 35، 192.
(5) فيكوريا نومارتين: «العولمة والتحليل الاقتصادي»، بحث منشور، في: يا رأسمالي العالم اتحدوا، مرجع سابق، ص 198.
(6) تقرير المعرفة العربي لعام 2014، ص 47.
(7) المرجع السابق: نفس الصفحة.

Exit mobile version