من العدوان على القدس نكتشف

 

مواجهات دامية أسفرت عن سقوط ضحايا اعتداءات نتج عنها ارتقاء شهداء، أخبار تكدر صفو الأجواء الرمضانية، وتذهب بهجة تلك الأيام الكريمة على الله وعلى عباده المؤمنين، ما معنى الأجواء الرمضانية؟ هل هي مثل الخيم والمسابقات الرمضانية؟ هل الأجواء الرمضانية هذه هي اجتماع العائلة على مائدة الإفطار واستماع الأهازيج التي يتغنى بها الأطفال ساعة الإفطار وأداء المسلمين صلاة التراويح خلف قارئ جميل الصوت يجتمع عنده مئات المصلين ثم تبادل الزيارات العائلية ومتابعة المسلسلات التي أعدت خصيصاً للترفيه عن الصائمين وتأخير أوقات العمل ليتمكن الصائم من النوم المريح؟

هل هذه هي الأجواء التي جعلت من الصائمين يستطيعون الوقوف أمام الكفار في غزوة “بدر” ويستحقون التأييد الإلهي بنزول الملائكة والنصر الكبير الذي ترك آثاره على المنطقة بأسرها؟

هل هذه الأجواء الرمضانية هي التي تترك آثارها على القلوب قوة وعلى النفوس راحة واطمئناناً وسكينة وقرباً من الله تعالى؟

نعود إلى الأحداث المؤسفة التي يغيب عن صانعيها اعتبار مشاعر ملايين المسلمين، ترى ما الذي أوقعنا في مثل الحالة المزرية؟ حيث يراق الدم المسلم، ويعتدى على مقدسات المسلمين، تغلي الدماء في العروق، وترغب الهمم العالية في نصر مؤزر أو موت كريم، لكن حسابات أخرى تحول دون ذلك بين معتد أثيم يغازل ناخبيه ويسعى للحصول على أعلى الأصوات مستعيناً في ذلك بأذية المسلمين وقتلهم والاعتداء على مقدساتهم، وعالم غارق في مشكلات كبرى تبدو منها نذر حرب عالمية ثالثة أو التهديد بها، وبين الغارقين إلى الأذقان أو ما فوقها بكثير في الهم اليومي، أو في تفاهات تشغلهم عن مصيرهم وما يراد بهم قبل أن تشغلهم عن مصير غيرهم، تقع كل هذه الأحداث المأساوية لتكشف عن عدة أشياء:

1- أن هناك ما يجمعنا من القضايا، وأن هذا الجسد الإسلامي ما زال يملك القدرة على أن يشعر بعضه بعضاً، ويتألم بعضه بعضاً، وهذا مؤشر جيد على حياة هذه الأمة التي ظن بعض أبنائها قبل بعض أعدائها أنها ماتت ودفنت قبل عشرات السنين.

2- أن عالم المصالح الذي تغيب فيه القيم وتختفي فيه شعارات حقوق الإنسان لا يستمع إلا للأقوياء الذين يستطيعون إسماع صوتهم وتغيير مجريات الأحداث بما أوتوا من قدرة على الفعل في أرض الواقع، وقدرة أخرى على تسليط الضوء على ما يفعلون، وإرسال الرسائل المتعددة إلى كافة الأطراف المعنية ليحسب الباغي ألف حساب قبل أن يمد يده، وليدرك المعتدي أن زمان الأيدي المكتوفة قد ولى إلى غير رجعة.

3- عودنا الحق سبحانه وتعالى الإحسان والفضل، فمن تقرب إليه شبراً تقرب الرب جل وعلا إليه ذراعاً، وفي أول الصراعات الحربية الكبرى بين المسلمين وكفار قريش في غزوة “بدر” يقول الله تعالى للمؤمنين: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: 125)، إن تحليتم بالصبر والتقوى جاءكم المدد من الله تعالى، الصبر الذي تدرك معه أن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الإنسانية، ومستمر إلى آخر إنسان على ظهر الأرض، وفي هذا الصراع جولات أحياناً ينتصر أهل الحق إن استوفوا شروط الانتساب للحق أو كانوا أهلاً للحق فعلاً، وأحياناً أخرى ينتصر أهل الباطل تمحيصاً لأهل الحق وتنبيهاً لهم إن حققتم الصبر الذي يعين على النفس الطويل وتحمل الضربات الثقيلة وتعلم كيف تفاديها، وأن تتقوا فتستعدوا لكل أمر وتبقوا على يقظتكم وجاهزيتكم إن حققتم الصبر والتقوى، أمدكم الله من خزائنه، ولله خزائن السماوات والأرض، وأرسل إليكم من جنوده، ولله جنود السماوات والأرض، لقد بذل الصحابة ما يملكون فأنزل الله تعالى ملائكته لتجاهد مع عباده المؤمنين.

4- الرقم الصعب في هذه المواجهات هم من يقفون على خط النار بثبات ويقين يعجب منه العالم ومن لا يعرف معنى الأرض والمقدسات إلا من الأناشيد الوطنية التي تذاع في المناسبات، هؤلاء الذين يرون أنهم الدرع الأولى لهذه الأمة، ليس بين أعدائه ومقدسات الأمة فحسب، بل هم العائق الأول أمام اجتياح العالم الإسلامي بصبرهم وقوتهم وصمودهم، إنهم يعلموننا في كل موقف أن في هذه الأمة رجالاً يملكون من الشجاعة والتضحية ما يضيقون به الأرض على أعداء الله.

5- أن المعركة معركة الأمة كلها، لكن حيل بينها وبين ما تشتهي، واختار الله تعالى من يقوم بهذه المهمة الكبرى نيابة عن الجميع، فلا أقل من أن تبقى القضية حية في نفوسنا لا نفقد حماسنا لها ولا يقيننا بأن الأيام دول، وأن الأرض المباركة قد دنسها الاحتلال الصليبي ما يزيد على الأعوام التسعين، لكنه رحل كما يرحل كل احتلال وعادت الأرض إلى الصادقين مع ربهم ومع أنفسهم، عادت لمن يرون أن لكل شيء ثمناً وعلى قدر السلعة يكون ثمنها، إن المسألة ليست فيمن يسكن هذه البقعة من الأرض، بل من يقوم بواجب العبودية لله تعالى فيها.

6- لقد رأينا شعارات كثيرة رفعت وتخندق الناس حول هذه الشعارات، ثم أثبتت الأحداث والتجارب أن أصحابها على أحسن تقدير كانوا مخدوعين إن لم نتهمهم بشيء آخر.

7- كما يحتاج هذا الصراع إلى القوة التي توقف المعتدي عند حده، يحتاج إلى الحكمة أيضاً، تلك الحكمة التي تضع كل شيء في موضعه، وتميز الصديق من العدو، وتعمل على إفاقة المخدوعين وجمع الصف حول كلمة الله، تلك الحكمة التي يمكن أن تجمع حولها ملايين البشر بحبهم لربهم ورغبتهم في طاعته وحملهم للعواطف الطيبة تجاه المكان الذي بارك الله حوله.

Exit mobile version