الدين يُسْر

 

الصيام ركن من أركان الإسلام وعبادة أشار الله تعالى إلى عظم أجرها حين قال سبحانه في الحديث القدسي: “الصوم لي وأنا أجزي به” (صحيح البخاري)، وخصص للصائمين باباً في الجنة يقال له باب الريان، ومع مكانة هذه العبادة في الإسلام، إلا أن من لم يستطع الصوم بسبب مرض يمنعه من الصيام أو بسبب سفر يبيح الفطر فمن حقه أن يفطر ويصوم في وقت آخر، هل بعد هذا التيسير من تيسير؟ بل إن الله تعالى يقول في آيات الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ولنا أن نسأل: هل التيسير في عبادة الصيام وحدها أم أن التيسير في الإسلام كله؟

إذا أردنا أن نتحدث عن الإسلام بألفاظ يسيرة واضحة ذهبنا إلى حديث جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم: “مَا الإِيمَانُ؟”، قَالَ: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ»، قَالَ: “مَا الإِسْلاَمُ؟”، قَالَ: “الإِسْلاَمُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ”، قَالَ: “مَا الإِحْسَانُ؟”، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (صحيح البخاري).

التيسير روح تسري في الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً

مظاهر التيسير

وإذا انتقلنا إلى العبادات وعلى رأسها الصلاة فهي ركن من أركان الإسلام وعبادة تتكرر في اليوم والليلة 5 مرات -على الأقل- نجد أن من لم يستطع الوضوء تيمم، ومن لم يستطع الصلاة قائماً صلى جالساً، ومن لم يستطع الصلاة جالساً صلى على جنب، ومن لم يستطع صلى إيماءً مع كل هذه التيسيرات تجد الصحيح القادر على الصلاة لكنه يتركها.

وفي عبادة الحج، وهي أحد أركان الإسلام، ولها مكانة عظيمة في الإسلام، فهي سبب لمغفرة الذنوب، لكن من تيسير الإسلام أنه فرضها أولاً على المستطيع، وفي أثناء أداء هذه العبادة تجد التيسير، فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم قبل موعده في عبادة الحج أو أخر عن موعده إلا قال: “افعل ولا حرج”.

التيسير روح تسري في الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً؛ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ” (صحيح البخاري).

ويقف الإسلام بشدة ضد التشدد مهما كانت دوافعه حسنة والقصد منه طيباً، جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (صحيح البخار)، رغبتهم في القرب من الله تعالى دفعتهم إلى مواصلة الصيام والقيام واعتزال الزواج وكأنهم خرجوا من الدنيا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ردهم إلى اليسر الذي جاء به الإسلام وجعل من خرج عن هذا اليسر خارج عن الدائرة التي تضم المسلمين.

لكن من الذي يقول: إن هذا تشديد وتشدد وهذا تيسير، أهل الغلو سيرون كل تيسير تساهلاً وانسلاخاً من الدين، وأهل التساهل سيرون كل التزام بالشرع تشدداً، وسيذكرون لك ويذكرونك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الدين يسر” (صحيح البخاري).

نعم الدين يسر، لكن الذي يحدد اليسر من العسر هو الدين وليس الهوى، لا يزال بعض دعاة التيسير المنحرفين عن هدي الإسلام يتركون شعائر الإسلام وفرائضه وأركانه مدعين أن هذا هو معنى يسر الإسلام، حتى لا يبقى لهم شيء إلا “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.

اليسر يسري في الإسلام وتعاليمه، فتجد الأجر العظيم للتيسير في التعاملات مع الناس، قال صلى الله عليه وسلم: “وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ” (صحيح مسلم)، نجد أن جزاء التيسير على الخلق التيسير من الرحمن الرحيم سبحانه.

العمل اليسير إذا صاحبه الإخلاص تقبله الله ورفع صاحبه إلى أعلى عليين

جزاء التيسير في الدنيا يعطيه الله سبحانه وتعالى للمسلم في الدنيا والآخرة، فإذا كنت في كرب فيسر على المسلمين بنية أن ييسر الله تعالى عليك، والتيسير على المعسرين الذين عليهم ديون بتأخير موعد السداد؛ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280]، أو بإسقاط جزء من الدين أو بإعطائهم ما يستطيعون به السداد لأصحاب الديون ولعل معنى العسر يتسع ليشمل التعاملات بين الموظفين وأرباب العمل ومن يتعاملون معهم وبين المعلم وتلاميذه وبين الرجل وأهل بيته حتى يكون منهج حياة للمسلم، وكما يرتبط اليسر برحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة يرتبط كذلك بالبركة، قال صلى الله عليه وسلم: “أعظم النِّسَاء بركَة أيسرهنّ مُؤنَة” (مصنف بن أبي شيبة)، يسر تكلفة الزواج سبب للبركة، وتعسير تكاليف الزواج حتى كأن المرأة سلعة سبب لمحق البركة، وتأخير سُنة من سنن الله تعالى وهي الزواج، وكبت لطاقات أذن الله تعالى لها أن تخرج في طريق الزواج المشروع.

الإنسان يسعى إلى تيسير حياته وأموره، ويعد ذلك إحدى غاياته التي يسعد لتحقيقها، والحياة في نظر المسلم لا تتوقف على الحياة الدنيا فحسب، فهناك الحياة البرزخية، وهناك الدار الآخرة، وعناية المسلم بتيسير أموره في هذه الحياة عناية كبيرة، وأحد مقاصده في الحياة الدنيا دار العمل والزرع يدفعه إلى ذلك ما يجده من قول الله تعالى: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26]، فهو يسأل الله تعالى اليسر في دنياه وأخراه.

العمل اليسير إذا صاحبه الإخلاص تقبله الله بقبول حسن ورفع صاحبه إلى أعلى عليين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ (الفرس الصغير)، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» (صحيح البخاري)، تصور كم تزن التمرة التي كسبها صاحبها من حلال وتصدق بها ابتغاء مرضاة الله! وكم يزن الجبل الذي يعطي الله سبحانه وتعالى ثواب يعادله في مقابل تمرة واحدة! إن المسافة بين التمرة والجبل كما بين السماء والأرض، لكن الإخلاص يرفع العمل اليسير ويبارك في القليل.

Exit mobile version