جزء من الحل لا جزء من المشكلة

 

إذا مررت بإنسانٍ يغرق؛ فإن واجبك الوحيد هو مدُّ يدك إليه لإنقاذه، وغير ذلك من الحلول التي تقدِّرها لن تُسْهم في الإنقاذ، بل ربَّما كانت سببًا مُضافًا لإغراقه، فماذا فعلتَ بمرورك!

الإنسان المُحتاج في المجتمع يريد منك إنقاذه لا مواساته، فهل الخير الذي تقدِّمه له كفيلٌ بإخراجه من لُجَّته، وإعادة مُهجته، وتمكينه من الاعتماد على نفسه؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تكرارًا للمُكرَّر، وسيْرًا على العادة، ومشاركة في العزاء!

الكليات الخمس

لقد كرَّمه الله كما كرَّمك، فهو من جنس الإنسانية التي أنت منها، والشريعة جاءت بما يحفظ للإنسان الكليِّات الخمس: “حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال”، وما يجب على كل مُقتدرٍ هو أن يعين أخاه على حفظ هذه الكليات المشتركة بين البشر جميعًا، ويسْهم في صنع التوازن بينها لديه، حتى يؤهِّله ليكون فاعلًا معه، صاحب خيرٍ متعدٍّ، وعطاءٍ ممتدٍّ، لا أن يبقى منشغلًا بنفسه، دائرًا حولها، يُلجمه الماء إلجامًا، كلَّما رام الخروج منه أعاده، وكلَّما رفع صوته فيه قطعه، فأنّا له أن يكون كفؤًا وهو غير مكفيٍّ!

لقد كرَّم الله الإنسان ومدَّه بوسائل العلم والتمكين والعمارة والخلافة، والأرض له كما هي لك، وكل ما يؤدي للإنقاص أو الانتقاص أو التأثير في تلك الوسائل محرَّم، كما هو محرَّم كل ابتذال أو إهانة، بل هو الصوْن والحفظ لتلك الكليات كما ينبغي، حتى نحافظ على الكرامة، ونسْهم في البناء، ولهذا حث ديننا الحنيف على العمل والسعي والكسب: “مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ” (البخاري 1988)، فلماذا لا نكون جزءًا من الحلِّ فنساعد الآخر في أن يأكل من عمل يده لا من عمل أيادي الآخرين؟

لنتأمّل في نصِّ الحديث الشريف الذي حصر خير الطعام في عمل اليد، في إشارة إلى أن طعام اليد الأخرى قد يكون فيه خيرًا؛ ولكن ليس كخيريَّة الأول ولا يُقاربه، وأظن أن هذا المشتمل على الخيرية المحصورة والمؤكد عليها إلى هذه الدرجة؛ فيه من مقوِّمات النهضة والرقي والتمكين ما ليس في أي خيرية أخرى طارئة على يد صاحبها، والتي هي المعنيَّة به وهو المعنيُّ بها، أكثر من كل ما عداه وعداها.

يجب على كل مُقتدرٍ أن يعين أخاه على حفظ الكليات المشتركة بين البشر جميعًا ويسْهم في صنع التوازن بينها لديه

إن شعور الإنسان بكرامة أخيه الإنسان كشعوره بكرامته هو؛ يأبى عليه أن يدع غريقه يمد إليه يده مرة بعد مرة، وفي كل مرة يمرُّ عليه فيها يجده لم يبرح التيَّار… ألا يكفي أن يمد إليك يده في أول مرّة! فمدَّ يدك إليه مادَّ مُنجٍ للأبد لا مُكرّرٍ للعدد، واعلم أن سقوطه لم يكن باختياره أو رضاه، وعليه؛ لا يمكن لأحدٍ أن يرضى لنفسه بالهوان أو يحكم على نفسه بالموت، وإنّما قدَّر الله عليه ذلك الوضع كما قدَّر لك وضعك، وضيَّق حاله بينما رفع لك حالك، فلا تشارك في إذلاله أو تعوِّده عليه، فأنتما منهيَّان عن ذلك سويّاً، إذْ: “لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ”، ومن باب أولى؛ ألَّا يذلَّه سواه.

إن المحسن الكريم والدال على الخير والمجتهد في إيصاله للمحتاج لهم بإذن الله الأجر الجزيل، وليس المقصود مما أشرنا إليه الانتقاص من أحدٍ أو من عمله، ففي كل جهدٍ وعطاءٍ وإحسان الخير والبركة، بل نتحدَّث هنا عن الأفضل عملًا، والأصوب مسارًا، والأنفع تدخُّلًا، والأبقى أثرًا.

الاعتماد على النفس

لقد علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعطي المحتاج فأسًا ليحتطب، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: “لَكَ فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ”، قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَدَحٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ، قَالَ: “ائْتِنِي بِهِمَا”، قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: “مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟”، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: “مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا”، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: “اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا، فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا، فَأْتِنِي بِهِ”، فَفَعَلَ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّ فِيهِ عُودًا بِيَدِهِ، وَقَالَ: “اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَلَا أَرَاكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا”، فَجَعَلَ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ:” اشْتَرِ بِبَعْضِهَا طَعَامًا وَبِبَعْضِهَا ثَوْبًا”، ثُمَّ قَالَ: “هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ وَالْمَسْأَلَةُ نُكْتَةٌ فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ دَمٍ مُوجِع” (سنن أبي داود 1641) وله شواهد، ما أحسن ما علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم، لقد علَّمنا جميعًا (الآخذ والمعطي) أولويات العمل؛ علَّمك أيها المحسن الكريم أن ترشد المحتاج وتعلمه طريقة العمل، وتمكِّنه من وسائله العلمية والعملية، قبل أن يعلمه صلى الله عليه وسلم كيف يسعى ويكسب رزقه، لنتأمّل هنا: “لَكَ فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ”، إلفات النظر إلى ضرورة الاعتماد على النفس، ابتداءً بالعودة إلى ما معه من الممكِّنات الأولية والمهارات التي من خلالها يمكن البدء والانطلاق، برغم أن ما معه هو فقط: “حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَدَحٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ”، هل يبلغ اليوم بأحدنا هذا المبلغ من الحاجة! ومع ذلك: “ائْتِنِي بِهِمَا”، عودةٌ إلى نقطة الصفر تمامًا؛ لتكون الانطلاقة الصحيحة والخالصة، بمساندة الخبير حتى يستقيم السير ويطير الطير: “مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ “، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: “مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا”، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ”، إكمال الخطة، وتعليم البيع والشراء في نفس الوقت وبالصوت العال، وبعدها فورًا: “اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا، فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا، فَأْتِنِي بِهِ” فَفَعَلَ، عدم إغفال الطارئ (الطعام) لإسكات صوت البطون الخاوية التي لا تتحمل انتظار نتيجة المشروع، ولكن بموازاة ذلك تهيئة تامَّة واستعدادًا كاملًا للبداية، “فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّ فِيهِ عُودًا بِيَدِهِ، وَقَالَ: “اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَلَا أَرَاكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا”، صاحبَه المعلِّم وتدخَّل معه بخبرته حتى انطلاقه بالوسيلة الجاهزة، كما حدَّد له المدَّة الزمنيَّة المناسبة للعمل؛ ضمانًا للنتيجة المرجوَّة، “فَجَعَلَ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: “اشْتَرِ بِبَعْضِهَا طَعَامًا وَبِبَعْضِهَا ثَوْبًا”، لقد تعلَّم المحتاج كيف يكفي نفسه، واكتسب مهارة مُستدامة، ووجد عملًا مضمونًا، وها هو مشروعه قد نجح، وحصل منه على ما كان يطلبه من الناس من ضرورات المعاش، ولم ينسَ المعلِّم أن يطبع في ذهنه عنوان الدرس، وخلاصة الموقف، ومنهج الحياة: “هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ وَالْمَسْأَلَةُ نُكْتَةٌ فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ دَمٍ مُوجِع “، تحذيرٌ خطير من أن يدركه الهوان في الدنيا والآخرة، ثم إن المسألة لا تصلح لك ما دمت تمتلك ولو أدنى مقوِّمات الحياة؛ إذْ تقدر على استثمارها لصلاح الحال، وتبدأ بها مشروع العفاف، وفقط؛ هو صاحب الفقر المدقع الذي لا يجد أي شيءٍ يُذكر، أو صاحب الغرم المفظع الذي أُغلق عليه، أو صاحب الدم الذي وجعه فوق الطاقة، ونلاحظ أن هؤلاء الثلاثة لا يمكن البدء معهم بمشروعٍ حتى نفسح أمامهم الطريق، ونزيل عنهم الحمل، ثم نوجد لهم ما يمكن أن يستغنوا به.

عمل اليد فيه من مقوِّمات النهضة والرقي والتمكين ما ليس في أي خيرية أخرى طارئة على يد صاحبها

ومما يتصل بهذا؛ ما أعظم أولئك الذين أوقفوا الأوقاف الخيرية! كيف استفاد من خيرهم المُستدام فئامٌ من الناس تلو الفئام على مرِّ الليالي والأيام، وفي ذلك ذكرى لكل قادرٍ وكل معني بعمل الخير ومجتهد فيه، ليلتفت إلى المشاريع الإنمائية الكفيلة بنهضة لبِنات المجتمع، فبها ينهض المجتمع كله، والنماذج المختلفة تشهد لما أشرنا إليه، وما طريق السوق عن ابن عوفٍ ببعيد لمن أراد ألّا يعيش إخوانه عيشة العبيد، فعلى الله العون والتّكلان ومنك الإسناد والدلالة، وعليه الاجتهاد والعمل، وفي هذا المجال نشدُّ على كل يد محسنٍ كريم، وفاعل خير من الأفراد والجمعيات والمراكز الخيرية التي أولتْ هذا الموضوع أهمية، وأسْهمت بمشاريعها الإنمائية المستدامة في تمكين المحتاج، ونقله إلى العطاء والإنتاج، وبمثل تلك المشروعات وتوعية المحسنين بأهميتها؛ يكون أفراد المجتمع نسَقًا متناسبًا منسجمًا في ممكِّنات التمكين والاستعمار والخلافة التي جعلها الله للإنسان في الأرض.

 

 

 

 

 

 

___________________

 (*) كاتب وباحث يمني.

Exit mobile version