معالم الطريق في السيرة النبوية.. نظرات مع د. الشاذلي النخلي (1 – 2)

 

تمثل السيرة النبوية معالم طريق للمسلمين لا تزال الأمة تستضئ بنورها وتعدل بوصلتها على ضوئها وتغرف من معينها حتى اليوم، وقد اهتم العلماء والباحثون بالسيرة النبوية حتى لا يكاد يعثر اليوم في العالم على سيرة لا تزال تلهم أتباع صاحبها في مشارق الأرض ومغاربها كما هي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبمناسبة تقديمه رسالة الدكتوراة (تحت الطبع) بعنوان “الحوارات النبوية في القرآن والسُّنة”، كان لـ”المجتمع” هذه الوقفات حول السيرة النبوية مع الداعية د. الشاذلي النخلي.

حاضنة الدعوة

يؤكد د. الشاذلي النخلي أهمية الحاضنة المجتمعية للدعوة عند انطلاقتها، وهي الفترة التي سبقت قيام الدولة الإسلامية على يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي الفترة التي سبقت التمكين ودامت هذه الفترة ثلاث عشرة سنة من البعثة المحمدية إلى أيام الهجرة إلى المدينة، وتعتبر هذه الفترة أطول الفترات قياساً لما يليها.

أهمية الزوجة

ويرى د. النحلي أن السند القوي أساس النجاح، حيث وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مفتتح الدعوة زوجته السيدة خديجة التي كانت السند القوي في إعانته على تحمّل هموم الرسالة، فكانت أول من أسلم، وبذلك أصبحت مكمن سره والداعمة الرئيسة في شد عزيمته، أضف إلى ذلك أن خديجة رضي الله عنه تكفلت بكل ما يشغل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الدنيا ويلهيه عن المضي في أمر ربه سبحانه، فخفّف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئاً مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرّج الله عنه بها، إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهوّل عليه أمر الناس، وهذا يدل على أهمية الزوجة في حياة الداعية.

أهمية العائلة

المثال الثاني الذي يستشهد به النخلي هو العائلة وأهميتها في تحقيق أهداف الداعية، إذ يعتبر أبو طالب وهو من رجال السلطة والمتقدمين في قريش لسنه وشرفه السند القوي لابن أخيه، وذلك لمكانته في قومه، كما يقول ابن إسحاق، فعظم على أبي طالب فراق قومه له وعدواتهم، ولم يطب نفساً بتسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه، بل قال له: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، والله لا أسلمك لشيء أبداً. (م ج 1، ص 285).

أهمية الصلة بالله

ربما أخطأنا في ترتيب الأولويات، فالصلاة في المرتبة الأولى من دعامات النصر، فما كان للدعوة الربانية أن تفلح في الأرض دون طلب العون من الله تبارك وتعالى، ودون البحث عن تأييده جل جلاله، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)، افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما افترضت عليه ركعتين ركعتين كل صلاة، ثم إن الله تعالى أتمها في الحضر أربعاً، وأقرها في السفر على فرضها الأول، ركعتين. (ابن إسحاق، م ج 1، ص 260).

التربية والتأهيل

يقول النخلي: الدعوة الربانية تربية وتأهيل، لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول كلمته ثم يمضي في كل الحالات، بل أعد لمن استجاب له وآمن به مدرسة وملتقى هناك بجبل الصفا وعند دار الأرقم ابن أبي الأرقم، أضف إلى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يعوّل على المتأهلين لتعليم الناس والعناية بتربيتهم، فيستعين بهم على القيام معه، وجاء بيان ذلك: يوم أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد وجد المربي خباب بن الأرت عند أخته يبلغ ويدرس وهو المؤهل لذلك، ثم ترافقا سوياً إلى محضنة المسلمين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الأرقم.

هجرة الكر

تمثل الهجرة حلاً للداعية إذا ضاقت عليه السبل في بلاده، وهي ليست هجرة هروب، بل هجرة كر، كما يقول النخلي: الهجرة إلى الحبشة طوق إلى الحرية ما كان للقيادة وهي تسعى لإنشاء أمة جديدة على أنقاض من سبقها أن تبقى باهتة دون أن تحرك ساكناً، وهي تنظر إلى أنصارها ومؤيديها يتعرضون لأبشع أنواع العنت والعذاب، باعتبار أن النافذين الذين تتبخر أحلامهم في التفرد بالمال وفقدان السلطة وذهاب نعيمهم وريحهم، عادة ما يكشرون عن أنيابهم، يتنمرون على شعوبهم في محاولة يائسة للعودة بهم إلى مواقع الذل الاستكانة بعد أن من الله سبحانه على الصالحين ممن كانوا تحت أيديهم بنعيم الصحوة والحرية.

من أجل ذلك، اهتدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المتقدم على إنشاء الأمة الإسلامية أن يقترح على المنتسبين إليها بأن يهجروا ديارهم وممتلكاتهم، ويفروا بدينهم إلى أرض الحبشة، خيراً من أن يفتنهم أهل الكفر والضلال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد”، فخرج عند ذلك المسلمون، تقول أم سلمة: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، فأَمِنّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه، قال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف وهو ابن عمه، وكان يؤذيه في إسلامه.  

وحاربت أقواماً كراماً أعزة           وأهلكت أقواماً بهم كنت تفزع

ستعلم إن نابتك يوماً ملمة        وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع

بين الهجرة والاستكانة

أثبتت الهجرة الأولى إلى الحبشة أنها لم تكن هجرة بحث عن إقامة دائمة واستقرار وبحث عن وطن بديل بقدر ما كانت هجرة مؤقتة ومن ثم استئناف المشوار، وهو ما كان يرمي إليه الرسول صلى الله عليه وسلم أن قيم الكرامة وصدق المبادئ واحترام إنسانية الإنسان والعيش في عزة ومنعة أعلى بكثير من حياة الذل والهوان والرضا بالنفاق الاجتماعي والخنوع والاستكانة والتلهف لما يتفضل به الطغاة والمستكبرون، فلا بأس من أن ينتقل الإنسان من أرض إلى أرض مهما ارتفعت التضحيات مقابل أن ينعم بالاستقرار والحرية، وقد جاء في الأثر: “اليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى وفي كل خير”.

الالتزام بأسس الفكر

وحدة المحتوى الفكري في كل المراحل مطلوبة وفي مرحلة التدافع تصبح أوكد، فأين نجد ذلك في السيرة النبوية؟ لا شك أن الدعوة في أول مراحلها تحتاج إلى فترة زمنية قد تطول وتقصر من التخفي يتداول فيها المؤسسون محتوى فكرياً موحداً خشية الاختلاف، وبناء عليه؛ فإن كل من تأهل لتحمل أمانة البلاغ فليس له أن يضيف رؤى جديدة من عنده، بل عليه أن يتقيّد بما أوتي من علم من قيادته حتى لا يختلط الأمر، ورأينا هذا عند إرسال الدعاة إلى اليمن، وإلى المدينة قبل الهجرة وفي الرسائل النبوية إلى ملوك الروم والفرس ومصر، حيث التزم الدعاة بالنصوص، وكان اجتهادهم وفق روحها ومقاصدها.

Exit mobile version