علماء ومختصون يحذرون من استدعاء أحاديث الملاحم والفتن لتخدير الشعوب

في عام 2015م، ووقت أن كان “داعش” في أوج قوته وانتشاره، صور التنظيم الإرهابي “الهوليودي” مقطعاً حمل كل تقنيات هوليود الحديثة وإمكاناتها، يظهر “الدواعش” وهم يستعدون لذبح 21 مصرياً أمام عدسات الكاميرات على الساحل الليبي.

“الصلاة والسلام على من بعث بالسيف رحمة للعالمين”، جملة افتتح بها حديثه شخص ملثم بزي مميز يتحدث الإنجليزية بلكنة رائعة، وسط مجموعة من الملثمين يرتدون ملابس متشابهة، ويحملون خناجر استعداداً لذبح المصريين الراكعين أمامهم.

وفي حديثه، تكررت كلمات من قبيل “دابق، ونزول المسيح، وفتح روما”، وغيرها من النبوءات التي وردت في أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، التي صنفها علماء الحديث على أنها أحاديث آخر الزمان أو أحاديث الفتن والملاحم.

وقد ذكرها الملثم “الداعشي”، مستدلاً بها على صحة أفعالهم، ومنذراً بها “الغرب الصليبي الكافر”، حسب تعبيره.

علماء الأزهر أكدوا أن معظم تلك الأحاديث صحيحة من حيث القواعد الحديثية لكن الخطأ في فهم سياقاتها

العجيب أن ذكر تلك الأحاديث تكرر كذلك في مواقف أخرى حينما تحدث الشباب المنضم لـ”داعش” عن معركة آخر الزمان وعن القتال في سورية، ثم أخيراً وبعد العمليات العسكرية الدائرة في أوكرانيا وما تردد من إمكانية قيام حرب عالمية ثالثة وتقديرات أعداد القتلى، راح كثيرون يفتشون مرة أخرى في تلك الأحاديث ليبرهنوا على أن القيامة قد اقتربت، وغيرها من النبوءات؛ ما يثير مجموعة من الأسئلة، أبرزها:

ما وضعية تلك الأحاديث داخل سياق السُّنة النبوية أولاً؟ وكيف يمكن التعامل معها في ظل كونها جزءاً من إدارة الصراع مع الآخر؟ وهل صدرت بشأن أي من مفرداتها فتاوى من مؤسسات رسمية يمكن الاعتماد عليها؟ وهل يدل استدعاؤها على هروب من الواقع؟ وماذا عن إمكانية استنباط أحكام منها، أم أنها مجرد نبوءات لا يترتب عليها عمل؟ أسئلة كثيرة استطلعت “المجتمع” من خلالها آراء بعض العلماء في هذا التحقيق.

بداية، أكد عدد من علماء الأزهر أن تلك الأحاديث صحيحة من حيث القواعد الحديثية في معظمها، لافتين إلى أن الخطأ في فهم سياقاتها.

فمن جهته، يوضح د. عبدالفتاح خضر، عميد كلية أصول الدين والدعوة بجامعة الأزهر، أن ما يقصد بأحاديث الفتن والملاحم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث متعلقة بأحداث مستقبلية قريبة أو بعيدة زمانياً من عصر النبوة، وبعضها محدد المكان دون الزمان، وبعضها مجهول الزمان والمكان.

والأحاديث الصحيحة منها وقع بعضها، وبعضها لم يقع؛ لأنها مرتبطة بأشراط أو علامات القيامة الصغرى أو الكبرى؛ ولذلك لا ينبغي أن تدفعنا المشكلات والهزائم الحضارية والثقافية والعسكرية الحالية في بعض المناطق إلى استجلاب أحاديث الفتن والملاحم، بل واجبنا أن نكون إيجابيين نحارب اليأس والإحباط الذي يخيم على كثيرين الآن، ولننصت لنداء القرآن الكريم على لسان نبيه يعقوب عليه السلام: (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).

وأكد خضر أن واجبنا الإيمان بأحاديث الفتن والملاحم، وما تحويه من أحداث لتحفيز الهمم بالاستعداد للآخرة والعمل من أجل تعمير الأرض وليس الاستسلام، ولنتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها”، فهذا تشجيع المسلم على العمل حتى آخر دقيقة في حياته، مع أنه من المعلوم عند قيام الساعة أنه لن يفيد غرس ولا زرع، ولكن المقصود التشجيع على العمل، وأن يكون للمؤمن عمل نافع ومفيد وليس ممن يركنون إلى البطالة والكسل؛ لأن الساعة أصبحت قريبة وظهرت علاماتها، مع أن علم الساعة عند الله تعالى وحده، لأنه سبحانه القائل: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ) (الأحزاب: 63)، فينبغي على المسلم أن يكون إيجابياً منتجاً حتى وإن لم يستفد هو شخصياً من عمله، وإنما يستفيد غيره فيثاب على ذلك.

وحذر عميد أصول الدين بالأزهر من استجلاب أحاديث الفتن والملاحم وإنزالها على الواقع حتى يصل بنا الأمر إلى الخنوع والخضوع الذي يستفيد منه أعداؤنا؛ لأن المسلم الحق يؤمن بقول الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 8)، وهذه العزة بمفهومها الشامل تتطلب القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية وغيرها من مقومات القوة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ألم يقل الله عز وجل: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60).

وأنهى د. خضر كلامه مؤكداً أن الركون إلى أحاديث الفتن والملاحم بما يؤدي إلى الخزي والضعف والاستسلام وطمع أعداء الإسلام في المسلمين أمر مرفوض شرعاً، ومن يفعله آثم شرعاً ويجب توعيته.

شواهد تاريخية

أما د. عبدالمقصود باشا، رئيس قسم التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر، فيرى أن الكثير من العوام والمنتمين للحركات المتطرفة في العالم الإسلامي ممن لا وعي لديهم يهرعون وقت الحروب والأزمات إلى منظومة ضخمة من الأحاديث النبوية والفتاوى المحرفة أو المنزوعة من سياقاتها لتبرير مواقفهم، سواء في خضوع وضعف العوام، أو تبرير العنف والتطرف الذي تبنته الجماعات المتأسلمة وتجعله منهجاً للحياة لجذب عوام المسلمين إليها.

د. خضر: واجبنا الإيمان بأحاديث الملاحم لتحفيز الهمم بالاستعداد للآخرة والعمل لتعمير الأرض وليس الاستسلام

وأوضح باشا أن اللجوء إلى أحاديث الفتن والملاحم تكرر مرات عديدة في التاريخ الإسلامي خاصة والإنساني عامة، مثل: الحروب الصليبية، والهجمات المغولية على العالم الإسلامي، وكذلك في حرب العراق وإيران، ثم غزو الكويت، ثم أحداث 11 سبتمبر، ولعل الفتنة القائمة في بلاد الشام والعراق وبروز “القاعدة” و”داعش” ومن على شاكلتهما سواء بمنطقتنا العربية أو خارجها، حتى وصل الأمر إلى أننا على أبواب “الملحمة الكبرى”.

وهي معركة كبيرة تحدث في نهاية الزمان بين المسلمين والروم، وفقاً لبعض الأحاديث النبوية، وأن مكانها سيكون منطقة “دابق” بسورية حيث تجمعت جيوش الدول الكبرى، فتم استجلاب أحاديثها بأنها حرب عظيمة تكون بين الروم والمسلمين من جانب وعدو آخر قبل خروج الدجال، وبعد انتصار المسلمين والروم ينشب صراع عندما يدَّعي مسيحي أن الصليب أتى بالنصر، فيرفض المسلمون ويؤكدون أن النصر من عند الله تعالى ثم يكسرون الصليب، فتغدر الروم بالمسلمين وتبدأ حرب عظيمة بينهم حتى إنه إذا مر عصفور فوق المعركة يسقط ميتاً قبل أن يصل نهايتها حيث يتركز المسلمون عند “غوطة دمشق”، أما الروم فعند “دابق”، ويُقتَل ثلث جيش المسلمين، ويفر ثلث، وينتصر الثلث الآخر، ثم يظهر بعدها المسيح الدجال، ولم يحدث شيء من ذلك حتى الآن، ما أضر بمصداقية من يزعمون تحقق نبوءات أحاديث الفتن والملاحم الآن.

وأشار د. باشا إلى أن الملحمة الكبرى تتشابه بشكل عام مع معركة “هرمجدون” في المسيحية وتتبناها الصهيونية – المسيحية ومركزها الولايات المتحدة لدعم وجود الكيان الصهيوني، التي تحدث قبل ظهور المسيح الدجال الذي ينتظره اليهود باعتباره المخلص لهم ليعيد لهم ملكهم من النيل إلى الفرات، وزاد الأمر مؤخراً أننا على أعتاب فناء البشرية والعودة إلى عصر البداوة البدائية بسبب مخاطر الحرب النووية التي تستخدم فيها كل أسلحة الدمار الشامل في ظل اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية وانقسام العالم حولها إلى معسكرين.

وأكد باشا أن اللجوء إلى أحاديث الفتن والملاحم عبر التاريخ الإسلامي عادة ما يكون في عصور التراجع الحضاري والعسكري لتبرير الضعف والتخلف والذلة التي يكون عليها المسلمون، أما في عصور القوة والازدهار والتقدم عادة ما يتوارى اللجوء إلى تلك الأحاديث، ولا يغيب عن أذهاننا التسجيلات التي كان يبثها تنظيم “القاعدة” وتصف أسامة بن لادن بـ”القحطاني اليماني” الذي ورد في بعض الأحاديث المنسوبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن حوادث آخر الزمان، بل إن البعض وصفه بأنه “المهدي” الذي سيعيد للأمة قوتها بعد ضعف، وعزها بعد ذل، والخلافة الراشدة بدلاً من الدويلات الإسلامية الحالية.

وأنهى أستاذ التاريخ الإسلامي مطالباً بعدم “تسييس” أحاديث الفتن والملاحم حتى لا تضحك علينا الأمم كما ضحكت من قبل، وكذلك عدم اتخاذها ذريعة لخدمة أعداء الأمة الذين يرون في كثير من هذه الأحاديث وسيلة لتخدير وتغييب وعي المسلمين عما يحاك ضدهم من مؤامرات داخلية وخارجية، ولهذا لا بد من التسلح بالوعي الكامل والقوة الشاملة بدلاً من الاستسلام لهذه الأحاديث التي لم تحدد بالضبط زمان وقوعها؛ لأن كلمة “آخر الزمان” فضفاضة، وقليل من الأحاديث حددت مكان وقوع الأحداث دون زمانها.

القهر الاجتماعي

من جانبها، حذرت د. منى كمال، أستاذة الاجتماع بجامعة عين شمس، من شيوع أفكار مريضة مرتبطة بأحاديث الفتن والملاحم التي تخبرنا بكثرة الهرج والمرج استناداً إلى كثرة القتلى في معركة ما، بل واجبنا البعد عن تسميم أفكار مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تغلب عليها الأمية الدينية والثقافية لتبرير حالة الضعف المؤدي إلى الاستسلام والرضا بالهوان كأنه قدر إلهي لا مفر منه، وأن نزرع بدلاً من ذلك أفكار العزة والكرامة وعدم الاستسلام وتغيير الواقع للأفضل حتى لو ظهرت بعض أشراط الساعة أو ما جاء في أحاديث الفتن والملاحم.

د. باشا: اللجوء لتلك الأحاديث عادة ما يكون في عصور التراجع الحضاري لتبرير التخلف

وتتعجب د. منى من اتخاذ بعض الجماعات المتطرفة من بعض أحاديث الفتن والملاحم، وكذلك الأسانيد التراثية، ليروجوا للتطرف والعنف والذبح والحرق وغيرها من أشكال الإبادة التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ليبرروا وجودهم، ويجعلوا من ينتمون إليهم مطمئنين نفسياً لهم بأنهم على الطريق المستقيم ما داموا يحققون ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن متاع الجنة وحور العين في انتظارهم سواء قتلوا غيرهم أم قتلهم غيرهم، وهذا ما فعله “داعش”، على سبيل المثل، في الحديث المتعلق بـ”الملحمة الكبرى”، حيث اتخذه سنداً حديثياً وروج له إعلامياً لتبرير ظهوره في مسرح الأحداث، فاستولى على مدينة “دابق” لأخذ الصبغة الشرعية الدينية على جرائمه، واستلهم من ألفاظ هذا الحديث في تسمية “وكالة أعماق الإخبارية” كذراع إعلامية ناطقة باسمه، وإصدار صحيفة “دابق” تأكيداً أنهم الفئة الإسلامية المنتصرة، ومع هذا تمت هزيمتهم لاحقاً.

وحذرت د. منى من المغامرة بأمن واستقرار الأمة وتعريضها للخطر والضياع باستخدام أحاديث الفتن والملاحم، وتفسيرها في ضوء الأحداث المعاصرة؛ لأن هذا افتراء على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي لم يحدد زماناً أو جماعات باسمها، بل لم تذكر الأحاديث إلا قليلاً من الأماكن دون الأزمنة، ولهذا فإن ما يجري هو نوع من المغالطة الشرعية الخطيرة على الإسلام وصورته في العالم أجمع، حيث يتم استخدام هذه الأحاديث بعد فشل إنزالها على الواقع في الطعن في الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وعن الدوافع النفسية للجوء الناس إلى أحاديث الفتن والملاحم، يؤكد د. محمد خطاب، أستاذ علم النفس بكلية الآداب بجامعة عين شمس، أن الإحباط النفسي يعد من أهم الأسباب لأنه شعور يصيب الشخص عند الفشل في القيام بعمل، أو الإحساس بالقهر والظلم وعدم القدرة على الرد؛ ما يؤدي إلى فقدان الثقة بالنفس والتقليل من احترام الذات والخوف من التعامل مع الآخرين، وهو ما يسبب الهروب النفسي إلى دوافع ومبررات دينية يعزز بها خروجه من حالة الانهزام النفسي.

وأشار خطاب إلى أنه عادة ما يصاحب الإحباط النفسي انفعالات، أهمها: الغضب، والاستسلام، وفقدان احترام الذات، والحزن، والاكتئاب، والقلق على الحاضر  والمستقبل، والانجراف إلى السلوكيات السلبية الخارجة عن إرادة الشخص، وتعد هذه الحالة من عدم الاتزان النفسي فرصة ذهبية لاستقطاب المحبطين –أياً كان جنسهم أو عرقهم أو لونهم أو عمرهم– للدخول في تنظيمات متطرفة تعمل على ربط نفسها بأحاديث الفتن والملاحم، أو الادعاء بأنها الفرقة الوحيدة الناجية من النار والملتزمة بصحيح الدين حتى ولو كان السبيل إلى ذلك القتل والحرق والتدمير، وكل ما نهى الإسلام عنه مثلما يفعل “داعش” أو “القاعدة” أو “بوكو حرام”، وغيرها من التنظيمات عبر التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً.

وقال: الحل هو الخروج من حالة الإحباط من خلال ممارسة التأمل وتركيز العقل على حل المشكلات للتخفيف من الإحباط والتوتر، وتعلم المهارات للتخلص من الإحباط، والابتعاد عن الأشخاص المسببين للإحباط، والتفاعل والتقرب من الأشخاص الإيجابيين، وتطوير الإستراتيجيات التي تساعد على النجاح والتطور لبناء ثقة الشخص بنفسه، وتجنب التفكير السلبي، وعدم الربط بين المشكلات الشخصية أو العامة المتعلقة بأوضاع الأمة العربية والإسلامية بأحاديث الفتن والملاحم التي لم يحدد لها زمن معين.

Exit mobile version