الفريضة الغائبة

 

بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس بين أصحابه إذ يقدّم للأمة الإسلامية بشارة يتلقاها أولاً من سعدوا بالجلوس بين يديه صلى الله عليه وسلم، هذه البشارة هي: “يدخل عليكم رجل من أهل الجنة”، يقولها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام فيدخل نفس الرجل على نفس الهيئة “تتساقط قطرات الماء من لحيته من أثر الوضوء”، يحاول أحد المشتاقين إلى الجنة أن يبحث عن السر الذي استحق به صاحبه هذه البشارة العظيمة.

إن الرجل في الدنيا بفتنتها وبين جنبيه هذه النفس الأمارة بالسوء وهناك شياطين الإنس والجن، ومع ذلك ينال هذه المرتبة العظيمة، ترى أي عمل ضخم يقوم به لعله صيام النهار وقيام الليل، لعله إنفاق الأموال الضخمة في سبيل الله، لعله الجهاد.

يبيت هذا المشتاق إلى الجنة الباحث عن أسباب دخولها عند ذاك الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ثلاث ليال، فلا يجده يعمل عملاً يعده الناس كبيراً، لم يلاحظ شيئاً غير أنه إذا استيقظ من نومه بالليل ذكر ربه سبحانه وتعالى، ولاحظ أيضاً أنه لا يقول إلا خيراً، لعل في الأمر سراً لم يلحظه ذلك المشتاق إلى الجنة، بادر صاحبه بالسؤال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من أهل الجنة يدخل علينا، فكنت أنت الرجل، فماذا تصنع؟! قال الرجل الصالح: لا شيء غير ما رأيت، غير أني لا أبيت وفي قلبي لأحد من المسلمين غش ولا غل ولا حسد على خير أعطاه الله إياه.

سلامة الصدر

هذه البشارة التي تهم كل مسلم مفادها: “سلامة الصدر سبب لدخول الجنة”، هناك من يعيش في جنة قبل الجنة وهم أصحاب الصدور السليمة، وهناك من يحترق في النار قبل نار الآخرة كلما رأوا خيراً أنزله الله تعالى على خلقه، وخير الله عز وجل على خلقه لا ينقطع.

من وفّى بعهد العبودية من الصبر على الطاعة والصبر على الشدة والصبر على المشقة وفّى الله تعالى له بعهد الربوبية

إن الأحقاد كما تكون بين الأفراد داخل الدين الواحد تكون كذلك بين الأمم، وعن الأحقاد التي يواجهها المسلمون يقول ربنا تبارك وتعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120).

كل ما يحسن أحوالكم من حصول الألفة والمحبة بينكم ونصركم على أعدائكم وزيادة أرزاقكم ونجاتكم من البلاء يتضررون بذلك أعظم الضرر، تسود وجوههم وقلوبهم، يعلمون أن كل زيادة لكم هي نقصان لهم ووبال عليهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها، وإذا أصابكم مرض أو فقر أو هزيمة أو فرقة يفرحون بذلك، فكلما نقصتم أنتم زادوا، وكلما ضعفتم يا أهل الإسلام اشتدوا.

ثم دل الله تعالى المسلمين على النجاة من كيد أصحاب القلوب السوداء، وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً، فالأمر كما قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} (الطارق)، والأمر كما قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (المائدة: 64)، فمن وفّى بعهد العبودية من الصبر على الطاعة والصبر على الشدة والصبر على المشقة التي تلحق أهل الحق، ومن اتقى الله تعالى في السر والعلن وفّى الحق سبحانه وتعالى له بعهد الربوبية، وعهد الربوبية الحفظ والأمن واللطف في القضاء وانشراح الصدر حين تضيق صدور الناس وحصول السكينة حين يعم الفزع والثبات حين يحصل الفرار.

من وفّى بعهد العبودية وفّى الله تعالى له بعهد الربوبية؛ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (الطلاق: 2)، يكفينا قول الله تعالى {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} (البروج: 20)، فلتذهب الأحقاد بأهلها ولينعم أصحاب القلوب السليمة بجنة الدنيا قبل جنة الآخرة وبحفظ الله تعالى لهم وبثمار اليقظة التي لا تسمح للأعداء أن يتمكنوا منهم.

أما بالنسبة لما يحدث بين المسلمين وبعضهم بعضاً، فإن البشر يختلفون في أخلاقهم وعاداتهم وعقولهم، وعندما يجتمعون قد يحصل الضيق أو الصدام ثم القطيعة، لكن الإسلام لا يرضى أن تصل العلاقة لهذا الحد، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللهُ» (صحيح مسلم)، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ” (صحيح البخاري)، إن الله تعالى يرغب المسلمين في الصلح ففي كل نزاع يوجد ظالم ومظلوم ومجتمع.  

فإذا كنت ظالماً فسارع إلى استرضاء أخيك، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ  دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» (صحيح البخاري)، واعمل على أن تمسح ما في صدره من ضغائن جاءت نتيجة لظلمك، فاعمل على تقديم الترضية المناسبة له، وهي بين يديك الآن وتقدر إن شاء الله عليها بصدقك وحرصك على إصلاح ما أفسدته، فإن بذلت أقصى ما تستطيع فقد سعيت لإرضاء ربك أولاً ومحو ذنبك ثانياً، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

وإن كنت مظلوماً وقدم لك الاعتذار الذي يعيد إليك اعتبارك وحقك فاقبل من أخيك؛ “من اعتذر إليه، فلم يقبل، لم يرد على الحوض” (مختصر تلخيص الذهبي، قال المحققون: وبالجملة فالحديث حسن لغيره بمجموع طريقي أبي هريرة وجابر كما في الحديث).

أما المجتمع، فعليه أن يحول بين أفراده وبين أن يظلم بعضهم بعضاً، قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ” (مسند أحمد).

وإذا وقع الظلم على المجتمع أن يزيله ويحاول الإصلاح بين الظالم والمظلوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟”، قالوا: بلى، قال؟ “إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هو الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين” (مسند أحمد).  

إذا كان الطريق إلى الجنة يمر بسلامة الصدر فكيف نحصل على هذه النعمة؟ وكيف نحقق هذه العبادة؟

الطريق إلى الجنة يمر بسلامة الصدر ولا سعادة للإنسان إلا إذا عاش بقلب سليم من الأحقاد

1- بالدعاء {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 10).

2- إحسان الظن بالآخرين وحمل أقوالهم على أحسن المحامل.

3- اليقين بالقسمة الإلهية، وأن الله سبحانه له الغنى المطلق، وأنه جل جلاله لا يأخذ من إنسان ليعطي إنساناً آخر، وأن الخلق جميعاً كما قال سبحانه: “يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ” (صحيح مسلم).

إصلاح ذات البين

ثم على من رزقهم الله تعالى القبول بين الناس أن يسارعوا إلى الإصلاح بينهم، خصوصاً في الأوقات التي تستعد فيها النفوس للصلح أو تشتد فيها الصراعات وتعلو وتيرتها حتى يوشك الصدام أن يحل بين المتخاصمين، على هؤلاء الذين يحظون باحترام أطراف الخصومة أن يبدؤوا في محاولة التقريب بين هذه الأطراف حسبة لله تعالى، وسعياً للحصول على أعلى الدرجات.

إن كمّ الخصومات في المجتمع المسلم مهول، وهذه الخصومات قطّعت الأرحام وفرقت بين الرجل وزوجه وبين الأخ وإخوته وبين الوالد وأبنائه، وكان لبعضهم نصيب من قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد: 22).

قرن الله تعالى بين الإفساد في الأرض وبين تقطيع الأرحام حتى نعلم حجم هذه الجريمة المنكرة وتأثيرها على دين العبد ودنياه.

وإذا كان من أفضل الأعمال إصلاح ذات البين، فإن من أسوأ الأعمال إفساد ذات البين، وإيقاد نيران العداوة والبغضاء بين المسلمين، وهو أحد أعمال الشياطين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكنة لم ييأس من التحريش بينهم”.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا” (سنن أبي داود)، وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ” (مسند أحمد)، صاحب الصدر السليم قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة

قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: “كل مخموم القلب صدوق اللسان”، قيل: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: “هو التقى النقي، لا إثم فيه ولا بغى ولا غل ولا حسد” (سنن ابن ماجة)، لا سعادة للإنسان إلا إذا عاش بقلب سليم من الأحقاد.

بيننا وبين ليلة النصف من شعبان ساعات، وقد وعد الله تعالى خلقه بالمغفرة في هذه الليلة إلا من أشرك به سبحانه وتعالى شيئاً أو كانت بينه وبين أخيه شحناء، فمن ذا الذي يضيع على نفسه فرصة عظيمة للمغفرة والرحمة؟!

Exit mobile version