قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ

 

 قال تعالى: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج: 8).

تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية، لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها، فهذا عرض للمرض وليس هو المرض، ولكن بسبب إفلاسها في عالم “القيم”(1).

وهذا واضح كل الوضوح في العالم الغربي، الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من “القيم”، بل الذي لم يعد لديه ما يُقنع ضميره باستحقاقه للوجود، بعدما انتهت “الديمقراطية” فيه إلى ما يشبه الإفلاس.

وكذلك الحال في المعسكر الشرقي الماركسي الشيوعي، التي تناهض طبيعة الفطرة البشرية ومقتضياتها، ولا تنمو إلا في بيئة محطمة! أو بيئة قد ألفت النظام الدكتاتوري فترات طويلة(2).

حتى بدأ يظهر فشلها المادي الاقتصادي –وهو الجانب الذي تقوم عليه وتتبجح به– أصبحت تستورد القمح والمواد الغذائية، وتبيع ما لديها من الذهب لتحصل على الطعام، بسبب فشل المزارع الجماعية، وفشل النظام الذي يصادم الفطرة البشرية(3).

إن قيادة الرجل الغربي للبشرية قد أوشكت على الزوال، لا لأن الحضارة الغربية قد أفلست مادياً، أو ضعفت من ناحية القوة التكنولوجية والعسكرية، ولكن لأن النظام الغربي قد انتهى دوره، لأنه لم يعد يملك رصيداً من “القيم” يُسمح له بالقيادة(4).

الإسلام والفطرة الإنسانية

يوصف الإسلام بأنه دين الفطرة الإنسانية، وأن إنسانية الإسلام في النظرية والتطبيق لا تماثلها إنسانية على الإطلاق، فبينما عجزت المذاهب والنِّحل والفلسفات –غير الإسلامية– عن تفهم الإنسان أو تقف على ماهية تكوينه، وأنَّى لها ذلك وقد نظرت إلى الإنسان على أنه آلة، أو أن أصله حيوان، أو ذَرَّة تافهة في هذا الكون لا وزن له ولا قيمة(5).

كل الدروس التي أعطانا الغرب إياها طوال سبعين سنة عن الإنسانية التي لا تُفرِّق بين جنس ودين وعرق ولون، تبخرت خلال أربعة أيام فقط من حرب أوكرانيا!

العنصرية الغربية ملَّة واحدة

حتى قال أحدهم وهو رئيس وزراء: اللاجئون الأوكرانيون ليسوا من اللاجئين الذين اعتدنا عليهم، لذلك سنرحب بهم، هؤلاء أوروبيون أذكياء ومتعلمون، ولا يملكون ماضياً غامضاً!

وزير خارجية احدى دول أوروبا يقول: أؤيد من يذهب للقتال في أوكرانيا من بلدي متطوعاً!

نظرة الإسلام إلى النفس البشرية

إن النفس الإنسانية في نظرة الإسلام بصفة عامة مُكرَّمة محترمة، وهذا الأمر على إطلاقه، وليس فيه استثناء بسبب لون أو جنس أو دين، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 70).

وقد انعكست هذه الرؤية الشاملة لكل البشر، وبالتالي انعكست هذه الرؤية الشاملة على كل قولٍ أو فعلٍ لرسولنا صلى الله عليه وسلم. وهذا يُفسِّر لنا الطريقة الراقية الرحيمة التي تعامل بها صلى الله عليه وسلم مع المخالفين له والمنكرين عليه. إنه يتعامل مع نفوس بشرية مُكرَّمة، فلا يجوز إهانتها أو ظلمها أو التعدِّي على حقوقها أو التقليل من شأنها، وهذا واضح بيِّن في آيات القرآن الكريم وكذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.

في القرآن الكريم قال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الأنعام: 151)، فالأمر هنا عام، يشمل كل النفوس من مسلمين وغير مسلمين، فالعدل في الشريعة مطلق لا يتجزأ، فالشريعة تأبى الظلم في كل صوره، كما قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) (الأنبياء: 47)، والأمر هنا على إطلاقه أيضاً.

هذه هي النظرية الإسلامية الحقيقية لكل البشر، إنها نظرة التقدير والاحترام والتكريم. بل أكثر من ذلك، إن الله أمر بالعدل والإنصاف وحض وأمر به حتى مع من نكره من الناس!

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8).

ومعنى “يَجْرِمَنَّكُمْ”: لا يحملنَّكم.

ومعنى “شَنَآنُ”: بُغض.

وأما في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مَرَّت بالنبي صلى الله عليه وسلم جنازة فقام، فقيل: إنه يهودي. فقال: “أَلَيْسَتْ نَفْسَاً” (رواه مسلم: 961).

فإذا أخذنا في الاعتبار أن هؤلاء اليهود قد آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشتى أنواع الاعتداءات المعنوية والمادية، ومع كل هذا التعنت اليهودي، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف لجنازة رجل منهم. وهو رجل غير معروف لكيلا يقال: إنه أسدى معروفاً مرة للمسلمين، أو كان ذا خُلُقٍ حسن، ودليل ذلك أن الصحابة عيَّنوه بصفته لا باسمه، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برر وقوفه بقوله: “أَلَيْسَتْ نَفْسَاً”، إنه الاحترام الحقيقي للنفس البشرية.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران: 118 – 119).

إنها صورة كاملة السمات، ناطقة بدخائل النفوس، وشواهد الملامح، تسجل المشاعر الباطنة، والانفعالات الظاهرة، والحركة الذاهبة الآبية. وتسجل بذلك كله نموذجاً بشرياً مكروراً في كل زمان وفي كل مكان، ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول المسلمين من أعداء. يتظاهرون للمسلمين -في ساعة قوة المسلمين وغلبهم- بالمودة، فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة، وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة، وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال، ولا يقصرون في إعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم، والكيد لهم والدس، ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار.

شرح الكلمات:

“يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا”: لا يُقصِّرون في إفساد حالِكُم.

“وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ”: أحبُّوا مَشَقَّتَكُمُ الشديدة.

الغيظ الكظيم ضد المسلمين

هذه الآيات ترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين، وللشر المُبَيَّت، وللنوايا السيئة التي تُجَيَّش في صدورهم، في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعاً في أعداء الله هؤلاء، وما يزال يُفضي إليهم بالمودة، وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة؛ ويتخذ منهم بطانة وأصحاباً وأصدقاءً، لا يخشی مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار، فجاء هذا التنوير، وهذا التحذير، يُبَصِّر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر، ويُوَعِّيها لكيد أعدائها الطبيعيين، الذين لا يخلصون لها أبداً، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين. ولم يجيء هذا التنویر وهذا التحذير ليكون مقصورة على فترة تاريخية معينة، فهو حقيقة دائمة، تواجه واقعا دائماً. كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مکشوف مشهود.

والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم، يوادُّون من حاد الله ورسوله؛ ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم. والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)، والله سبحانه يقول: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ)، والله سبحانه يقول: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا)(6).

قيل لعمر رضي الله عنه: إن هنا رجلاً من النصارى، لا أحد أحسن خطاً منه، أفلا يكتب عنك؟ فقال: إذاً أتخذ بِطانة من دون المؤمنين؟ (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا)(7).

المؤمن إذا ابتُليَ بمخالفة العدو أن تكون مخالطة في ظاهره، ولا يطلعه من باطنه على شيء، ولو تملَّق له أو أقسم أنه من أوليائه(8).

 

 

 

 

 

________________________________

(1) انظر: معالم في الطريق، سيد قطب، ص 3. مع بعض التصرف.

(2) انظر: معالم في الطريق، سيد قطب، ص 3. مع بعض التصرف.

(3) انظر: معالم في الطريق، سيد قطب، ص 3. مع بعض التصرف.

(4) انظر: معالم في الطريق، سيد قطب، ص 3. مع بعض التصرف.

(5) انظر: التمكين العالمي للإسلام 1/ 56، الشحات محمود عطا.

(6) انظر: في ظلال القرآن 1/ 452.

(7) انظر: ابن جزي 1/ 159.

(8) انظر: السعدي ص 144.

Exit mobile version