أنا والطيبات

 

في الناس من يحرق نفسه ليضيء للآخرين، وهؤلاء يمضي بهم العمر دون أن يشعروا، ودون أن ينالوا نصيبهم من الحياة، ولكي يكمل هؤلاء مسيرة حياتهم ويواصلوا عطاءهم، لا بد أن يعيدوا ترتيب حياتهم.

وتقوم هذه النظرة -ضرورة أن يأخذ الإنسان نصيبه من الدنيا- على عدة أسس:

1- هذا ما توارثه الإنسان عبر الرسالات السماوية:

عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: “إِنَّ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ: حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَلَا يَغْفَلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ؛ سَاعَةٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يُفْضِي فِيهَا إِلَى إِخْوَانِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ، وَيَصْدُقُونَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَسَاعَةٍ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ عَلَى هَذِهِ السَّاعَاتِ، وَإِجْمَامٌ لِلْقُلُوبِ” (الزهد والرقائق لابن المبارك)، ففي رسالة داود عليه السلام ما يفيد أن الإنسان لكي يستعين على القيام بحقوق ربه وحقوق إخوانه لا بد أن تكون له ساعة يسمح لنفسه فيها أن ينال من اللذات المباحة التي لا تخل بمروءته ولا تنقص من قدره، ولكي يستعيد القلب نشاطه، فإن القلوب تمل وتكل، وإذا كلت عميت عن رؤية الحق وعجزت عن القيام به، وكانت الوصية لقارون: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: 77)، إنه غارق في الدنيا حتى أذنيه بل إلى ما فوق الأذنين، ولكنه الشرع والحكمة وهي تدعو إلى تذكر الدار الآخرة تؤكد الاستمتاع بالحظوظ الدنيوية.

2- الأساس القرآني:

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: 32)، لم يحرم صاحبنا -الذي كتبنا هذا المقال له ولأمثاله– الطيبات، بل وضع بينه وبينها حجاباً، بل حُجباً، يخاف أن يمد يده ليغترف فيغرق في بحارها ويؤثر عليه هذا الحرمان في مختلف مناحي حياته؛ لأنه يسير عكس الفطرة.

3- الأساس النبوي:  

عَنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دِينَارًا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارًا تُنْفِقُهُ عَلَى فَرَسِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارًا تُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَفْضَلُهَا الدِّينَارُ الَّذِي تُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِكَ» (المعجم الأوسط للطبراني)، فإذا أنفقت على نفسك تمكنت من الإنفاق على غيرك، بل تجد من يمرض ولا يذهب للطبيب توفيراً للنفقات ليعطيها لأولاده، وما درى هؤلاء أنهم إذا سقطوا بسبب المرض سيكلفون أبناءهم الكثير والكثير.

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: «أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟» قُلْتُ: إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ: «فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ (ضعف البصر)، وَنَفِهَتْ (تعبت) نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ» (صحيح البخاري)، فإذا قمت بحق نفسك استطعت أن تقوم بباقي الحقوق.

4- ولعلنا نقرب الصورة بما تتطلبه دواعي الإنقاذ:

عندما تضطر الطائرة لهبوط اضطراري، تأتي وصايا الأمن والسلامة لتؤكد أن إنقاذ نفسك قبل مَنْ يجاورك أولوية، بل إنك لن تستطيع أن تقدم المساعدة لمن يجاورك حتى تلبس قناع الأكسجين أولاً، ثم تُلبس مَنْ بجوارك في الطائرة هذا القناع.

التفريط في القائم بحق النفس:

1- الشخص المنهك في العمل لن يستطيع أن يقوم بحقوق أهله ولا بحقوق ولده، وأذكر أن أحد قادة السيارات كان يعمل ليلاً ونهاراً لا ينام إلا ساعات أربع، ولقلة النوم والتركيز اصطدم أكثر من مرة بغيره أو بمرافق الطرق، ودفع أجزاء كبيرة من أجرته لإصلاح ما أفسدته الغفلة التي جاءت نتيجة لجسد منهك يصرخ بأعلى صوت أريد أن آخذ حقي.

2- بل لن يستطيع أن يكمل طريق الحق، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» (الزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد)، هذه الجملة الحكيمة: “لا تبغض إلى نفسك عبادة الله”، عبادة الله التي تحبها الآن وتسعى لها سعياً حثيثاً بنسيانك لنصيب نفسك تكون كمن ركب دابة وهو مستعجل لذلك يرهقها فتموت منه قبل أن يصل إلى هدفه الذي حدده، لم يستطع الحفاظ على حياة الدابة ولم يستطع أن يصل إلى غايته!  

3- لن يستطيع أن يفكر تفكيراً صحيحاً، فإن الذهن يتأثر بعدة مؤثرات، منها وهن البدن ومرضه.

إن التقصير في حق النفس ذنب كالتقصير في بقية الحقوق، وإذا كنا نفهم الحقوق دائماً على أنها حقوق للآخرين، فأين حق النفس وحظها؟

إن التوازن في حياة المسلم صفة أساسية، ولا يعني أبداً أنه أخذ نصيبه من الدنيا أن ينسى رسالته في هذا الكون، وفي تاريخنا نماذج لمن لم ينسوا أنفسهم ولم يقصروا في أداء مهمتهم، ومنهم ابن الجوزي، يقول عنه الإمام الذهبي في “سير أعلام النبلاء”: كَانَ بَحْراً فِي التَّفْسِيْر، علاَّمَة فِي السّير وَالتَّارِيْخ، مَوْصُوَفاً بِحسن الحَدِيْث، وَمَعْرِفَة فُنونه، فَقِيْهاً، عليماً بِالإِجْمَاعِ وَالاخْتِلاَف، جَيِّد المشَاركَة فِي الطِّبّ، ذَا تَفنُّن وَفَهم وَذكَاء وَحفظ وَاسْتحضَار، وَإِكْبَابٍ عَلَى الْجمع وَالتَّصْنِيْف، مَعَ التَّصَوُّنِ وَالتَّجَمُّلِ، وَحسن الشَّارَةِ، وَرشَاقَة العبَارَة، وَلطف الشَّمَائِل، وَالأَوْصَاف الحمِيدَة، وَالحرمَة الوَافرَة عِنْد الخَاص وَالعَام، مَا عَرَفْتُ أَحَداً صَنَّفَ مَا صَنَّفَ.

قَالَ المُوَفَّق عَبْداللَّطِيْفِ فِي تَأْلِيْف لَهُ: كَانَ ابْن الجَوْزِيّ لطيف الصّورَة، حُلْو الشَّمَائِل، رَخِيم النّغمَة، مَوْزُون الحَرَكَات وَالنّغمَات، لذِيذ المفَاكهة، يَحضر مَجْلِسه مائَة أَلْف أَوْ يَزِيدُوْنَ، لاَ يَضيّع مِنْ زَمَانه شَيْئاً.

كل هذه الإنجازات لم تمنعه من أن يأخذ نصيبه من الدنيا، فقد كان ابن الجوزي يُرَاعِي حِفْظ صحّته، وَتلطيف مِزَاجه، وَمَا يُفِيد عَقْله قُوَّة، وَذهنه حدَّة، جلّ غذَائِهِ الفرَارِيج وَالزَرازير (أنواع من الطيور)، وَيَعتَاض عَنِ الفَاكهة بِالأَشرِبَة وَالمعجونَات، وَلباسه أَفْضَل لِبَاس: الأَبيض النَّاعم المطيّب، وَلَهُ ذِهْن وَقَّاد، وَجَوَاب حَاضِر، وَمجُوْن وَمدَاعبَة حلوَة، وَلاَ يَنفكّ مِنْ جَارِيَة حسنَاء.

وأما الإمام النسائي فقال عنه ابن كثير رحمه الله: كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، وذكروا أنه كان له أربع نساء حرائر، وسريتان، وأنه كان في غاية الحسن، وكان كل يوم يأكل ديكًا، ويشرب مرقه، ويشرب نقيع الزبيب الحلال. (شرح سنن النسائي المسمى شروق أنوار المنن الكبرى).

أحب أن أؤكد أن الأمم لا تنهض ولا ترقى إلا بأناس يتفانون في خدمة الآخرين، وإلى هذه الفئة التي تحترق لتنير للآخرين أقدم هذه الأسطر أذكرهم بالتوجيهات الإلهية والوصايا النبوية، وأذكرهم بأن حملهم ثقيل، فلا بد أن يستريحوا ليكملوا السير، وأن الطريق طويل فلا بد أن يتزودوا ليطيقوا حمل الأعباء وهم يسعون إلى تقديم العون والدعم لغيرهم، والأقربون أولى بالمعروف، ولا أقرب إليهم من أنفسهم.

Exit mobile version