المنتكسون إلى الوراء

الحمدالله والصلاة والسلام على رسول الله.. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

((‌مَنْ ‌كَانَ ‌مُسْتَنًّا ‌فَلْيَسْتَنَّ ‌بِمَنْ ‌قَدْ ‌مَاتَ، ‌فَإِنَّ ‌الْحَيَّ ‌لَا ‌تُؤْمَنُ ‌عَلَيْهِ ‌الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا أفضل هذه الأمّة، أبرّها قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا))!!!!

والفتنة المقصودة هي-والله أعلم- أن ينتكس المسلم، وينقلب الداعية أو العالم في الفكر والعقيدة والدين، فبعد أن يكون داعية يصدح في كل منابر الدعوة، ومجلاتها، ويؤلف في الردود على أصحاب التوجهات الفاسدة والمفسدة، وإذا به ينقلب على عقبيه، وإذا بداعية الأمس مفتون اليوم، بل فتان غيره، مضل له، فيدعو إلى الضلال والزندقة، بل والكفر أحيانا!!!

 إن تلك الظاهرة لم تعد ظاهرة خافية، بل هي ظاهرة في العلن، وبات أصحابها لا يستحون من الجهر بالكفر والزندقة والضلال، إنما أصبحوا يدعون الناس البسطاء للاقتداء بهم، ومجاراتهم فيما يذهبون إليه.

إن هذه أمور بتنا نشاهدها جهارا نهارا عيانا، محتجون أصحابها ودعاتها بحجج كثيرة، مثل حجة عدم الاقتناع أو بحجة الإرهاب أو محاولة التفلت من أحكام الشرع، أو بحجة تجديد الخطاب الديني، وقد رأينا من ضلال هؤلاء من لا يعترف بالسنة، فأداه ضلاله إلى نكران بعض الصلوات، ومنها صلاة العصر والجمعة، ومنهم من يريد دينا إنسانيا يسع الجميع، شعاره المحبة والسلام، دون تكفير ولا تفسيق ولا شيء من ذلك، ومنهم من جعل على رأس الأولويات والمقاصد، الحريات، ضاربا بعرض الحائط أولويات الدين والنفس وغيرها، ومنهم يرفع لواء القرآن فقط، ومنهم من يلمز ويطعن بسلف الأمة، وبخاصة علماء الحديث ويضفي عليهم صفات التملق والتزلف والتحرك للسياسة والمصلحة، وغير ذلك مما تموج به الساحة الفكرية، والأغرب أن القنوات والمراكز الإعلامية تفتح صدرها لهم، وتقربهم وتطلق لهم العنوانات الكبيرة، وتضفي عليهم صفات المفكر والمجدد وغير ذلك من ألقاب التمجيد!

وليت الأمر اقتصر على الرجال، بل النساء رفعن لواء المعارضات الفكرية، وولجن هذا الباب، من خلال الفكر والحريات والطاقة والتنمية البشرية وغير ذلك، وبتن يؤثرن على غيرهن في الحجاب والسلوك والعبادات!!!

إنها موجة إلحاد عالية المد، وقوية التأثير، ولا بد من مجابهة لها، وأن يتفرغ لها بعض الدعاة، الواعين العالمين بأصول الشرع، لا بتفنيد الشبهات فحسب، بل بتأصيل الأصول، وتقعيد قواعد الدين، وبسط الدين غضا طريا كما أنزل، والتركيز على قضية الحديث والسنة، لأنها من أكبر القضايا التي يلج فيها هؤلاء، فيبدأون بحديث الآحاد، ثم يسحبون هذا على كل التراث وعلى كل رجالاته، جهلا منهم وغفلة!

إن من يتولى كبر هذه المسائل، علماء من كل الاتجاهات، وممن كانوا دعاة في حركة كبرى، وكانت من أصولهم، عودة الدين والشريعة، واليوم هم أول من ينقض هذا الشعار، ويريد انشاء دين خال من الاسلام، من خلال القراءات الأخرى أو القراءة الثانية للتراث، بل القراءة الأخرى للقرآن والحديث والتفسير وأصول الفقه، أو تقديم كل شيء، مثل المقاصد والعرف والواقع ومصلحة الدعوة، والمصلحة السياسية الموهومة،  وغيرها على نصوص الوحي المعصوم، دون التفات إلى أي مسوغات أو قواعد التنزيل أو مناط الخطاب وغير ذلك، ويعتمد البعض على أقوال الشاطبي بعد تمزيقها وتأويلها، وأقوال الطوفي وغيرهما، ومع كل هذا، فهم ينبذون أقوال السلف مثل الطبري والشافعي وابن حنبل وابن تيمية وابن القيم بل والبخاري ومسلم وأصحاب السنن، ومنهم من يستهزئ بأقوالهم ويعيب عليهم فهمهم، بل يطالب بفهم مختلف لأنهم عاشوا في عصر مختلف، ومن الطرافة والغرابة ادعاء البعض أننا نملك المعرفة أكثر منهم، وفهمنا أوسع من فهمهم لأننا في عصر التكنلوجيا والتقدم والعلوم!

أنا لا أتحدث هنا عن زنادقة، أو ملحدين، أو كفار، إنما أتحدث عن أصحاب عمائم علمية، وعمائم فكرية، ومن أبناء الحركة الاسلامية، ومنهم من جلسنا نقرأ لهم سنوات نتعلم منهم ونتربى!! وغيرهم، ولكننا فوجئنا بهذه الانتكاسات التي لا حصر لها!

ويتساءل المرء عجبا، كيف كانت الردة الفكرية هذه عند هؤلاء؟ ولماذا؟

نعم! إنها ردة عصر بكل معنى الكلمة، وليس بالضرورة أن تكون ردة عن الدين، إنما هي بدايات مخيفة للردة عن الإسلام، والغريب تغافل الدعاة والمصلحين، بل ويأس بعضهم عن المشاركة في الدفاع عن هذا الدين وعن رجالات التراث وعظماء الإسلام وعلمائه، إنه لا عذر لأحد اليوم، وهو يرى استباحة الكثيرين لساحة هذا الدين، وتطاولهم جهلا وغباء على أصوله، وعلى تراثه، وعلى رجاله، ثم لا ينطق، ويظل صامتا، دون حراك، إنها لمصيبة كبرى هذا الشلل الدماغي عن البعض!

ولا أريد هنا أن أسمي، فالأسماء لا تعنينا كثيرا، بقدر ما تعنينا الفكرة نفسها والتحولات الفكرية الضخمة، إننا لا ندعو إلى الجمود، ولكننا كذلك لا نريد الانفلات، فلا تبقى لنا أصول ولا يوجد لنا مرجعية وهوية نحتكم إليها، إن التجديد مطلوب، ولكنه ليس بنبذ الأصول والتراث والقيم!

ولهذا مقالة أخرى باذن الله تعالى!

استنهاض الأقلام:

إنها دعوة استنهاض كل صاحب قلم، وكل صاحب هم، وكل صاحب علم، أن يقف سدا منيعا، فيقول لا يهدم الدين وأنا حي، كما قالها الصديق رضي الله عنه، في أحلك ظروف الأمة، وكما قالها ابن حنبل في المحنة الكبرى، ونقولها، ونحن في عافية وستر، أمامنا الكمبيوتر واستخدام الشبكة العنكبوتية، وأنت مستريح في بيتك، أيعجزك ذلك!!

Exit mobile version